ثلاثة أفلام كبيرة، في شكل أو في آخر، أتت خلال الشهور الأخيرة لتعيد الى الساحة السينمائية، ومن ثم الى ساحة السجال السياسي، جزءاً أساسياً من تاريخ الجزائر. فيلمان من هذه الأفلام جزائريان من انتاج جزائري رسمي أو شبه رسمي، أما الفيلم الثالث فمن انتاج فرنسي. وفيما نلاحظ أن الفيلم الثالث هذا، وهو «عن البشر والآلهة» فيلم يتناول فصلاً يعني فرنسا مباشرة ولا يعود زمن حدوثه الفعلي، الى أبعد من العقد الأخير من القرن العشرين، يتوقف الفيلمان الأولان وهما «مصطفى بن بولعيد» و «الخارج على القانون» عند مرحلة أبعد قليلاً من الزمن، أي الى حيز زمني يبدأ مع ارهاصات انطلاقة الثورة الجزائرية، بعيد الحرب العالمية الثانية، لينتهي بعد ذلك بزمن طويل، يصل الى زمن الاستقلال. وفي هذا المعنى يتزامن الفيلمان، اللذان حقق أولهما المخرج المخضرم أحمد راشدي، أحد مؤسسي السينما الجزائرية، فيما حقق الثاني المخرج رشيد بو شارب، الجزائري الأصل المقيم والعامل في فرنسا منذ أكثر من ربع قرن، من دون أن يبعده ذلك الواقع من القضايا الجزائرية. إذاً، فيما يعالج فيلم كزافييه بوفوا (الفرنسي) قضية اغتيال عدد من رجال الدين الفرنسيين في الجزائر المعاصرة، ينكب فيلما راشدي وبوشارب على استعادة تاريخ الثورة الجزائرية، في شكل يبدو لنا متكاملاً بين الفيلمين، مع تشابه بينهما في البعد التاريخي والملحمي، حتى وإن كان فيلم راشدي يدور حول بطل فرد من الأبطال المؤسسين للثورة الجزائرية، مستقى من الواقع التاريخي نفسه، ويدور فيلم بوشارب حول ثلاثة اخوة جزائريين متخيلين، ارتبط مصير كل واحد منهم بمصير التاريخ الجزائري ليلتقوا بعد مصاعب الحياة في العاصمة الفرنسية مشاركين، طواعية أو كراهية، في الثورة. يتشارك فيلما راشدي وبوشارب في غنى انتاجي وتقنيات متميزة، وفي مد أحداث الفيلم على زمن سينمائي طويل. ولكن فيما يحاول فيلم راشدي تمجيد العمل الثوري كلياً - وهو ما تبتغيه جبهة التحرير الجزائرية دائماً -، يحاول فيلم بوشارب أن يكون أكثر مشاكسة على ذلك العمل ولا سيما من خلال محاولته رفع المحظور عن الصراعات التي قامت أول اندلاع الثورة، بين عالمين نضاليين جزائريين، ضد الفرنسيين، عالم المصاليين، من أنصار الزعيم الوطني مصالي الحاج، وعالم أنصار جبهة التحرير. وفي هذا السياق، يبدو فيلم بوشارب أكثر نزاهة، حتى وإن كان راشدي قد حاول أن يعبّر، بدوره، عن مرارة ما ازاء التاريخ. ومهما يكن، لا بد من أن نذكر هنا ان كلاً من الفيلمين أثار، على طريقته، ضجة وسجالات، وإن كان فيلم بوشارب قد أثار المزيد منها في فرنسا، لأسباب لا تتعلق بتصويره الصراعات الجزائرية الداخلية، بل بمعلومات تتعلق ببعض الأحداث التاريخية والمجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي في حق الشعب الجزائري... وارتفعت حدة السجال حول هذا الأمر، من جانب اليمين الفرنسي حتى عرض الفيلم وتبين أنه ليس الفيلم الذي كانوا يعتقدون، فهدأوا وحوّلوا تحركم ضده الى تحرك فولكلوري، علماً أن بوشارب كان في فيلم سابق له هو «السكان الأصليون» قد أثار غيظ اليمين الفرنسي أكثر، من خلال استعادته ذكرى الجنود المغاربة والأفارقة الذين ساهموا في تحرير فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، لينساهم التاريخ الفرنسي، حتى جاء الفيلم وحرك الرئيس جاك شيراك لإعادة الاعتبار اليهم. كل هذا بات معروفاً اليوم، أما ما يهمنا هنا، فهو أن ننطلق من هذا الابتعاث السينمائي الجديد، والذي كان قد بدا غائباً تماماً خلال العقدين الماضيين على الأقل، لنستعيد ذكرى السينما الجزائرية نفسها يوم كانت في بداياتها نوعاً من السجل الحي للتاريخ الثوري الجزائري، على أن نعود لاحقاً الى فيلم كزافييه بوفوا «عن البشر والآلهة» لنتناول من خلاله صعوبة العلاقة - وكما تعبّر عنها السينما - بين أمتين يبدو أن التناحر بينهما سيظل قائماً، حول التاريخ على الأقل، على رغم الاستقلال والصداقات المعلنة.