لا تزال «ارتدادات» الاعتذار التركي لروسيا عن إسقاط طائرة السوخوي تتفاعل داخل تركيا، سواء بين المعارضة التي تترصد رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان في كل تصريحاته أو بين السوريين داخل وخارج تركيا الذين يترقبون بحذر مرحلة ما بعد «الاعتذار». ونظراً الى أن تركيا تمتد حدودها داخل البلقان أيضاً، ولها مشكلاتها هناك مع بعض الدول، فقد كان ل «الاعتذار» التركي لروسيا تأثيره بتقوية النفوذ الروسي هناك، وهو ما انعكس في شكل خاص على موقف صربيا التي تطالب باعتذار تركيا عن «جرائم الحكم العثماني» ضد الصرب خلال 500 سنة ... دورة العلاقات التركية – الصربية تضاربت المصالح التركية – الصربية بحكم التحالف التاريخي الروسي - الصربي، الذي تجلى في دعم روسيا القيصرية لتخلص الصرب من الحكم العثماني واسترداد امبراطوريتهم التي قضى عليها الأتراك خلال توسع الدولة العثمانية في البلقان منذ النصف الثاني للقرن الرابع عشر وصولاً الى معركة كوسوفو 1389، التي رسّخت في التراث الصربي صورة معادية للأتراك والحكم العثماني وأصبحت جزءاً من الهوية الصربية التي قامت عليها الحركة القومية الحديثة لتحويل «باشوية بلغراد» الى دولة مركزية في البلقان خلال 1878-1912. لم يكن من السهل لأحمد داود أوغلو احتواء صربيا ضمن نظرية «تصفير المشكلات» التي نظّر لها وعمل عليها سواء خلال عمله وزيراً للخارجية منذ 2009 أو توليه رئاسة الحكومة لاحقاً. ولكن ما كان يبدو مستحيلاً مع صربيا التي كانت «العدو التاريخي» للوجود العثماني في البلقان تحقق أخيراً خلال سنوات 2009-2012 مع تسلم داود اوغلو منصب وزير الخارجية في 2009. وتزامن ذلك مع فوز «الحزب الديموقراطي» في صربيا (الأقرب إلى الغرب والساعي إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي) في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 2008 وفوز رئيسه بوريس تاديتش بمنصب رئيس الجمهورية. فنمت خلال عهد تاديتش 2008-2012 العلاقات مع تركيا إلى حد انه أمكن الحديث عن التحول من «العداء التاريخي» إلى «التعاون الاستراتيجي»، حيث أخذت رؤوس الأموال التركية تنصب على صربيا لتساهم في إنشاء البنية التحتية والمشاريع التجارية وغيرها. ولم تعد لبلغراد حساسية من تدفق الاستثمارات التركية على منطقة السنجق في جنوب صربيا، التي تشكل تاريخياً ثقل المسلمين هناك، على اعتبار أن «الإسلام التركي» أصبح مفضلاً على «الإسلام المتشدد» الذي أخذ يتغلغل في المنطقة. ومع أن تاديتش خسر انتخابات 2012 أمام توميسلاف نيكوليتش رئيس «حزب التقدم الصربي» الأكثر قومية إلا أن «التعاون الاستراتيجي» كان قطع شوطاً مفيداً للدولتين وأصبح نموذجاً ملهماً للآخرين. كل هذا انهار فجأة في خريف 2013 مع زيارة رئيس الحكومة آنذاك رجب طيب أردوغان الى كوسوفو حيث فجّر تصريحاً له في لحظة انفعالية كلّ ما بناه داود اوغلو خلال سنوات. فخلال زيارة له الى مدينة بريزرن، التي كانت مركز ولاية كوسوفو العثمانية، قال أردوغان أمام الآلاف من سكان المدينة (التي تعتبر التركية لغة رسمية فيها) أن «كوسوفو هي تركيا وتركيا هي كوسوفو». فقد فجّرت هذه الكلمة مشاعر الصرب مجدداً ليتذكروا معركة كوسوفو في حزيران (يونيو) 1389 ومشاركة تركيا ضمن حلف الأطلسي في حرب 1999 ضد صربيا ورفع العلم العثماني/التركي من جديد في بريزرن خلال حزيران 1999 الذي يتذكر معه الصرب كل عام هزيمتهم أمام العثمانيين. أكثر من اعتذار للصرب جاء اعتذار تركيالروسيا ليدعم أكثر النفوذ الروسي المتصاعد في البلقان، الذي يتّخذ من صربيا قاعدة له بحكم العلاقات التاريخية والمصالح المتشابكة. وبسبب هذا لم تتجرأ الحكومة الصربية الساعية الى الانضمام الى الاتحاد الأوروبي على إقرار العقوبات الأوروبية الأخيرة ضد روسيا، كما أن المزاج الشعبي المؤيد لروسيا في الانتخابات الأخيرة أعاد زعيم اليمين القومي المتشدد فويسلاف شيشل الى البرلمان الصربي ليطالب بالتحالف مع روسيا بدلاً من الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. ومع ذلك فإن الأزمة الجديدة في العلاقات بين صربيا وتركيا فجّرتها الذكرى السنوية لمجزرة سربرنيتسا في البوسنة (11 تموز - يوليو 1995) وما صاحبها من تصريحات تركية في هذه المناسبة. ومن ذلك تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو «حين تبكي البوسنة لا تستطيع تركيا ان تنام بهدوء». فردّ عليه وزير الخارجية الصربي ايفيتسا داتشيتش ورئيس الحزب الاشتراكي الصربي (الذي أسّسه سلوبودان ميلوشيفيتش) في تصريح عنيف غير مسبوق للصحافة الصربية في 13 تموز الجاري وصل فيه الى مطالبة تركيا بالاعتذار عن جرائم الحكم العثماني ضد الصرب خلال 500 سنة. وفي هذا التصريح اعتبر داتشيتش ان التباكي التركي على ضحايا سربرنيتسا نوع من «النفاق» لأن صربيا كانت أقرّت عبر برلمانها في 2010 بياناً يدين الجرائم التي ارتكبت في سربرنيتسا، وطالبت برلمانات الدول المجاورة أن تقرّ بياناً يدين الجرائم ضد الشعب الصربي. ومن هنا فطالب داتشيتش وزير الخارجية التركي أن يبكي ايضاً أمام برج الجماجم في مدينة نيش بجنوب صربيا، الذي أقامه العثمانيون في 1809 من قتلى الصرب الذين ثاروا على الحكم العثماني، بل أنه طالب بأن «يقوم بعض المسؤولين الأتراك بالركوع أمام برج الجماجم للاعتذار من الصرب عن الجرائم التي ارتكبت ضدهم خلال 500 سنة» من الحكم العثماني. مثل هذا التصريح لوزير الخارجية الصربي لا يعبّر فقط عن التوتر المتواصل في العلاقات التركية- الصربية، التي تساهم فيها جمهورية الصرب في البوسنة في شكل فاعل في السنوات الأخيرة، بقدر ما يعبّر ايضاً عن الاستقواء بروسيا بعد الاعتذار التركي لها. ويبدو هذا بوضوح في اليوم التالي للتصريح (14/7/2016) حين أدرج وزير الخارجية الكوسوفي أنور خوجا في خطابه أمام مؤتمر السفراء الألبان «النفوذ الروسي» ضمن التهديدات الخمسة الحالية التي تواجه البلقان.