نتيجة للتحولات الجديدة في البلقان بعد انهيار يوغسلافيا، وعلى رغم الانقسام الصربي بين كيانين متجاورين لا تفصل بينها سوى حدود شكلية (جمهورية صربيا وجمهورية الصرب) إلا أن التباين السياسي يزداد بينهما حول العلاقات الإقليمية، وبالتحديد حول العلاقات مع كل من تركيا وإسرائيل اللتين زادتا كثيراً اهتمامهما بالبلقان بعد تأزم العلاقات بينهما نتيجة الهجوم الإسرائيلي على سفينة «مرمرة» في أيار(مايو) 2010. وقد تصاعد هذا التنافس مع التوجه الفلسطيني لطلب عضوية فلسطين في يونيسكو والأممالمتحدة، حيث أيدت تركيا بقوة هذا التوجه وسعت إلى ضمان تصويت بعض دول البلقان لصالح الفلسطينيين، بينما عملت إسرائيل في الاتجاه المعاكس، ونجحت في إحداث اختراق مهم بين دول المنطقة (اليونان وبلغاريا وألبانيا والبوسنة). ومع أن تطورات الوضع في سورية هدّأت قليلاً الخلاف التركي - الإسرائيلي، مع سعي واشنطن وغيرها إلى التوسط بسبب الأولويات الجديدة في المنطقة، إلا أن العلاقات التركية - الإسرائيلية لا تزال وستبقى متوترة طالما بقي على رأس وزارة الخارجية في البلدين أحمد داود أوغلو وأفيغدور ليبرمان. كانت تركيا نجحت في السنوات السابقة مع تولي أوغلو الخارجية، وسعيه إلى «تصفير المشاكل» مع الدول المجاورة واستدعاء التاريخ العثماني المشترك مع البلقان ونتائجه الباقية على الأرض (الأقليات التركية والمسلمون الذين يشكلون غالبيات في البوسنة وألبانيا وكوسوفو الخ) إلى أحداث اختراق كبير لتركيا في البلقان حتى أصبح يستخدم تعبير «الفتح العثماني الثاني للبلقان». وفي هذا الإطار كان الاختراق الأهم في العلاقات مع صربيا، التي كانت «العدو التاريخي» للوجود العثماني. وقد تزامن ذلك مع فوز «الحزب الديموقراطي» في صربيا (الأقرب إلى الغرب والساعي إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي) في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 2008 وفوز رئيسه بوريس تاديتش بمنصب رئيس الجمهورية. ونمت خلال عهد تاديتش 2008-2012 العلاقات مع تركيا إلى حد انه أمكن الحديث عن التحول من «العداء التاريخي» إلى «التعاون الاستراتيجي» ، حيث أخذت رؤوس الأموال تنصب على صربيا لتساهم في إنشاء البنية التحتية والمشاريع التجارية وغيرها. وفي هذا السياق لم تعد لبلغراد حساسية من تدفق الاستثمارات التركية على منطقة السنجق في جنوب صربيا، التي تشكل تاريخياً ثقل المسلمين هناك، على اعتبار أن «الإسلام التركي» مفضل على «الإسلام المتشدد» الذي أخذ يتغلغل في المنطقة. لكن هذا الانفتاح في جمهورية صربيا على تركيا، الذي تمثل في السنوات الأخيرة في إقبال كبير على مشاهدة المسلسلات التركية، كان يقابله تحفظ بل نقد ل «العثمانية الجديدة» في الكيان الصربي المجاور (جمهورية الصرب) الذي أخذ على العكس يعزز علاقاته مع إسرائيل بعد أن تولى ميلوراد دوديك رئاسة هذه الجمهورية في 2010. وتجدر الإشارة إلى أن دوديك لا يخفي منذ سنوات رأيه في أن «جمهورية البوسنة والهرسك» كيان مصطنع فرضه الغرب بموجب اتفاقية دايتون عام 1995 على حساب الصرب، وأنه لا مستقبل لهذه الجمهورية، ولذلك فهو يعزز علاقات دولية ل «جمهورية الصرب» التي تحتل 49 في المئة من البوسنة وتتصرف كدولة داخل دولة في انتظار اليوم الذي تنهار فيه البوسنة. وفي هذا السياق زار دوديك إسرائيل في كانون الثاني (يناير) 2010 وزار الولاياتالمتحدة في 2011 ليعزز العلاقة مع اللوبي اليهودي واستقبل بترحيب كبير الوزير أفيغدور ليبرمان في صيف 2011 ووعده بعدم تأييد البوسنة للطلب الفلسطيني في الأممالمتحدة، وهو ما حصل، وها هو الآن يستقبل في زيارة خاصة ليبرمان بعد أن تطورت العلاقة إلى صداقة ويتحدث عن واقع وآفاق العلاقة بين جمهورية الصرب وإسرائيل. وضع جمهورية الصرب وفي مقابلة أجرتها الجريدة البلغرادية المعروفة «داناس» (عدد 19/9/2012) أكد دوديك أن إسرائيل «تتفهم وضع جمهورية الصرب ويمكن لها أن تساعد على تقدم هذا الوضع (باتجاه الاستقلال التام) بما لها من علاقات ديبلوماسية مع شبكة المنظمات اليهودية في العالم». ولأجل وضع أساس للعلاقات يركز دوديك على المعاناة المشتركة لليهود والصرب في معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، ويكشف كيف أن رئيس المؤتمر اليهودي العالمي في الولاياتالمتحدة زار جمهورية الصرب خلال نيسان (أبريل) الماضي وتناول بشكل مؤثر المعاناة المشتركة لليهود والصرب في معسكرات الاعتقال. ويرى دوديك أن التشابه بين الكيانين هو من الأسس التي توثق العلاقات وأن إسرائيل وجمهورية الصرب يحيطهما الأعداء أنفسهم (المسلمون المتطرفون الذين هم العرب بالنسبة لإسرائيل والبشناق بالنسبة لجمهورية الصرب). يقول دوديك إن «التشابه» بين الطرفين يكمن أيضاً في أن «إسرائيل تكافح في سبيل السلام والاستقرار في الإقليم (الشرق الأوسط )، كما أن سياستنا تقوم على التفاهم الإقليمي». وبالاستناد إلى ذلك يشيد دوديك بتطور العلاقات الاقتصادية في مجال الزراعة، حيث تسعى جمهورية الصرب إلى أن تستفيد من خبرة إسرائيل في هذا المجال، وفي مجال السياحة أيضاً. ولتعزيز هذه العلاقة يستشهد دوديك بما تحقق حتى الآن من توأمة لبانيولوكا (عاصمة جمهورية الصرب) مع مدن عدة في إسرائيل وتبادل الأنشطة الثقافية بين الطرفين. ويستشهد بشكل خاص بالتعاون مع متحف الهولوكست (ياد فاشيم) لكي «يكون الهولوكست حاضراً في الكتب المدرسية». ومن الطبيعي في مثل هذا اللقاء أن يتم التعرض للتوجه الفلسطيني الجديد نحو الأممالمتحدة، حيث يقول دوديك ببساطة «نحن سنؤيد موقف إسرائيل. أعتقد أن الحل الشامل الذي تسعى إليه إسرائيل ليس ضد مبدأ الدولتين ولكنه يطالب بحدود واقعية». ومن هنا يذكر أنه بفضل معارضة جمهورية الصرب لم تصوت البوسنة في 2011 لمصلحة استقلال فلسطين. ومع كل هذا السعي إلى علاقة خاصة بين جمهورية الصرب وإسرائيل يوجه دوديك هجومه ضد تركيا سواء بسبب موقفها خلال حرب البوسنة 1992-1995 (مساعدة علي عزت بيغوفيتش بالسلاح وكل وسيلة أخرى ممكنة) أو بسبب التمدد التركي الجديد في الدول المحيطة بجمهورية الصرب (الجبل الأسود وصربيا ومكدونيا الخ). لولا جمهورية صربيا الأم ما كانت لتقوم جمهورية الصرب في البوسنة، إلا أنه من الملاحظ أن مشروع «صربيا الكبرى» الذي سعى إليه سلوبودان ميلوشيفيتش ينقشع الآن عن انقسام صربي - صربي أمام التنافس التركي -الإسرائيلي على النفوذ في البلقان!