مثّلت الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الى صربيا والبوسنة في منتصف أيار (مايو) تتويجاً لانعطاف تاريخي بكل معنى الكلمة في العلاقات التركية - الصربية على وجه التحديد، وبالتحديد الانتقال السريع من «العداوة التاريخية» الى «الصداقة الجديدة». وقد سمح التطور السريع خلال 2008-2010 لرئيس الجمهورية التركية عبدالله غول أن يصرح أخيراً بأن العلاقات مع صربيا هي في أعلى مستوياتها في التاريخ». وفي الواقع أن هذا «الاختراق» التركي للبوابة الصربية، سمح لتركيا الأردوغانية أن تكمل امتدادها في البلقان ليمتد مجالها الحيوي من ألبانيا على ساحل الادرياتيكي الى أفغانستان، وساعد إسطنبول على أن تعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي وأن تلعب دور الوسيط في النزاعات في كل مكان بما في ذلك النزاع المرير بين صربيا والبوسنة المجاورة. ولم يعد من الأسرار أن وساطة تركيا قد أفلحت وجمعت الرئيسين الصربي بوريس تاديتش والبوسنوي حارث سيلاجيتش في «قمة إسطنبول» خلال نيسان (أبريل) الماضي، حيث اتفق الرئيسان على تبادل السفراء بين الدولتين. وفي غضون ذلك كانت أنقرة نجحت في إقناع بلغراد في اتخاذ بادرة ما اتجاه البوسنة، وبالتحديد في الاعتراف بجرائم الحرب الصربية التي ارتكبت بحق مسلمي البوسنة، وهو ما قام به البرلمان الصربي في أواخر آذار (مارس) الماضي. وقد فتح هذا الاعتراف الصربي الباب أمام حدث مهم رافق زيارة أردوغان الأخيرة ألا وهو قيامه مع الرئيس الصربي تاديتش بالمشاركة في الذكرى ال 15 لمجزرة سربرنيتسا في 11 تموز (يوليو) الجاري، التي كان لها صداها بين مسلمي البوسنة. ولكن الجديد في زيارة أردوغان هذه المرة الى صربيا، بعد اختتام زيارته الى البوسنة، هو انها جمعت للمرة الأولى بين الاقتصاد والدين والسياسة والثقافة، وهو ما يجعلها محفوفة بالآمال والمخاطر في آن. ففي هذه المرة جاء أردوغان مع وفد من رجال الأعمال الأتراك، الذين أصبح لهم حضور في كل مكان في البلقان، وحرص أن تشمل زيارته لصربيا إقليم السنجق الذي هو عبارة عن مثلث حدودي بغالبية بشناقية ما بين صربيا والبوسنة والجبل الأسود وقد حظي أردوغان باستقبال شعبي، لم يخل من توتر واشتباكات، إذ أنه كان أعلى مسؤول تركي يزور المنطقة منذ زيارة السلطان العثماني محمد رشاد في 1911 الى كوسوفو المجاورة. وفي هذه الزيارة كان المثلث الاقتصادي الديني الثقافي حاضراً. فقد وقّع على هامش الزيارة اتفاق بين وزيري الخارجية على إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين، كما وقعت اتفاقيتان مع رجال الأعمال الاتراك لبناء وتجهيز طريقين سريعين في صربيا وبدأت المحادثات لإنشاء «منطقة صناعية» في السنجق الصربي. وما بين هذا وذاك افتتح رئيس الوزراء التركي أردوغان في نوفي بازار عاصمة السنجق الصربي المركز الثقافي التركي «أتاتورك». ومن الواضح أن الجديد في هذا المثلث هو الجانب الديني الثقافي. فقد كان السنجق كغيره من المناطق المجاورة (البوسنة والجبل الأسود وألبانيا وكوسوفو ومكدونيا) موطناً للإسلام الذي وصل وانتشر خلال الحكم العثماني الطويل للمنطقة والذي دام حوالى 500 سنة. وقد عرف الإسلام العثماني بانفتاحه واعتداله ومنجزاته الحضارية التي لا تزال شاخصة، ولكن في العقدين الأخيرين برزت جماعات متشددة لم توفر حتى السلاح لكي تفرض آراءها وتسيطر على بعض الجوامع. وقد انعكس هذا على شكل توتر جديد أصبح يسيطر على أطراف العلاقة بين المسلمين أنفسهم وبين المسلمين والدولة في صربيا. ومن هنا بدا للوهلة الأولى أن تركيا الأردوغانية بما تمتلكه من امتداد «شعبي» في العالم الإسلامي يمكن لها أن تساعد صربيا أيضاً بواسطة «الإسلام العثماني» وحتى «الإسلام ما بعد العثماني»، وذلك بفتح المركز الثقافي التركي «أتاتورك» الذي يقدم أيضاً صورة مغايرة عن العلاقة بين الدين والدولة. ولكن زيارة أردوغان هذه التي قد تثير الآمال عند البعض يمكن لها أن تثير المخاطر أيضا نتيجة لما حدث في نوفي بازار خلال زيارة أردوغان، التي ساهمت في ازدياد التوتر بين الجماعتين المتنافستين على تمثيل الإسلام والمسلمين في صربيا. وكانت صربيا قد أصدرت في 2006 «قانون الكنائس والجماعات الدينية» الذي يحتّم على كل جماعة دينية في البلاد أن تنتخب هيئة تمثلها أمام الدولة. وفي حين أن الأمور سارت بسلاسة بين أتباع الاديان الأخرى إلا أن المسلمين في صربيا (أقل من مليون يمثلون حوالي 10 في المئة من السكان) انقسموا بين فريقين: الأول يتمركز في العاصمة السياسية (بلغراد) ويتصف بعلاقة وثيقة مع الحكومة الصربية والثاني يتمركز في العاصمة الدينية (نوفي بازار) وهو أقرب الى البوسنة ورئيس العلماء فيها د. مصطفى تسريتش. وقد بادر كل فريق الى انتخاب هيئة تمثله، حيث انتخبت الأولى (الهيئة الإسلامية لصربيا) رئيساً لها هو الشيخ آدم زيلكيتش بينما انتخبت الثانية (الهيئة الإسلامية في صربيا) رئيساً لها هو الشيخ معمر زوكورليتش. وقد أصبح من الواضح أخيراً أن الهيئة التي يرأسها الشيخ زوكورليتش هي التي تمثل غالبية المسلمين في صربيا، وبالتحديد غالبية البشناق، بخاصة أن كلية الدراسات الإسلامية في نوفي بازار تتبع لها. وقد أصدرت صربيا بعد ذلك قانوناً آخر لانتخاب مجالس للقوميات في صربيا. وفي حين سارت الأمور بسلاسة مع المجر والغجر والألبان وغيرهم فإن الانتخابات التي أجريت في حزيران (يونيو) الماضي كشفت عن تدخل حكومي سافر لترجيح كفة الفريق المؤيد للحكومة بعد أن تبين أن الغالبية الساحقة صوتت للقائمة التي يدعمها الشيخ زوكورليتش. وقد أدى هذا التدخل الحكومي بالصحيفة الصربية المعروفة «داناس» (عدد 9/7/2010) الى أن تصف ما حدث بأنه «فضيحة» لأن الفريق المؤيد للحكومة يمثله وزيران في الحكومة الصربية راسم لياليتش وسليمان أوغلانين! ومن هنا فقد أثارت زيارة أردوغان المخاوف لأنه حظي باستقبال رسمي فقط من الفريق المؤيد للحكومة، بينما قاطع الزيارة الفريق الذي يمثل غالبية المسلمين هناك. ولأجل ذلك فقد استدعيت قوات من الشرطة منذ صباح 12 أيار الى المدينة، لكن ذلك لم يحل دون بعض الاشتباكات الفردية بين أتباع الفريقين ودون رفع شعارات في الإنكليزية والصربية تطالب الرئيس الصربي باحترام إرادة الناخبين ل «المجلس القومي البشناقي» التي تم تجاهلها. وبعبارة أخرى لم يكن في مصلحة أردوغان ولا تركيا الأردوغانية أن تبدو الزيارة وكأنها تحظى بدعم فريق من المسلمين ضد الفريق الآخر الذي أثبت في الشهور الأخيرة انه يمثل غالبية المسلمين في السنجق الصربي على الأقل ومن المأمول الآن بعد هذه المقاطعة للزيارة أن تكون تركيا أكثر توازناً في علاقاتها مع المسلمين في صربيا، بخاصة أنها تريد أن يكون السنجق الصربي «جسراً للتواصل» بين الدولتين كما قيل خلال هذه الزيارة.