هذه رواية، يمكن أن ننسبها بيسر إلى روايات التشويق والحركة. فهي تقرأ بأنفاس لاهثة ومتوترة ويقضي قارئها وقته وهو يلاحق أحداثها المتسارعة بمتعة من غير أن يشعر بالملل أو الرغبة في التأجيل، بل تنعشه في كل لحظة قراءة روح فكاهة نضرة تتسلل إليه من بين سطور الحوارات التي كُتبت باللهجة العراقية، التي استطاع الكاتب من خلالها أن يجسد شخصياته، كما لو أنه التقطها مباشرة من واقع لن يُرى بيسر في الحياة اليومية، وهي شخصيات على قدر هائل من الظرف رغم البيئة المأسوية التي انتجتها ولا تزال تحيط بها. عراقيات وعراقيون يتماهون مع مصائرهم المهشمة، كائنات ليلية منبوذة، لا ترى بداً من الاستمرار في العيش وسط دوامة من العنف الذي يحيط بها من كل الجهات. وإذا عرفنا أن وقائع الرواية تدور في مواخير المدينة الفقيرة في مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي، فإن شيئاً من الفضول المعرفي يضفي هو الآخر على الرواية أسباب شد وتشويق جديدة. غير أن «عصافير المومس العرجاء» للعراقي سعد هادي الصادرة عن (دار مومنت - لندن) لا تقف عند حدود التشويق هدفاً لها. لم تكن تلك المتعة إلا خدعة. فالرواية التي تدور أحداثها زمنياً مثلما قلت في حقبة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، تسلط الضوء على أحوال شريحة منسية من الفقراء، عبثت بها أقدارها فصارت مادة سهلة لتسلية غير مكلفة ولضياع مجاني وسط تردٍ في المفاهيم الثقافية، صار يعبر عنه صعود طبقات اجتماعية كانت إلى وقت قريب تقيم في العالم السفلي. وكما أرى فإن الروائي كان قد اختار بجرأة وشجاعة نادرتين في الأدب القصصي العراقي أن يهبط إلى ذلك العالم السفلي، مستخرجاً من هناك مواد، سيكون من شأن استعمالها روائياً أن يضعنا في مواجهة حقيقة ما جرى من تحول سلبي في حياة العراقيين، كانت سنوات الحصار الدولي الطويلة الذي فرض على العراق (1991 - 2003) قد مهدت له، وجاء الاحتلال ليهبه صورته الأخيرة. لم يتشعب الروائي في سرد أحداث حكايته. لقد أمسك خيطاً واحداً من البداية حتى النهاية، وكانت لغته التي تحاشت الوصف قد احتفت بالأفعال حاضنة للأفكار التي يعثر عليها القارئ مبثوثة بين الحوارات والوقائع. المصادفة وحدها قادت البطل، وهو الراوي في الوقت نفسه إلى أن ينزلق إلى ذلك العالم السفلي. تفتح امرأة مجهولة باب سيارته وتصعد، طالبة منه أن يوصلها إلى مكان ما. بعد نقاش يستسلم الراوي الذي لم يصرح الروائي باسمه للمرأة، ويبدأ معها جولة بين أحياء المدينة المقفرة، التي كانت تعيش على وقع ما انتجته الحرب من مظاهر الفوضى العارمة والخوف من قتل مجاني يقع كل لحظة. يكتشف الراوي أن المرأة كانت مومساً، غير أنه لم يتخلّ عنها، مستسلماً لقدر سيجره إلى البحث عن فندق يؤويهما، بعد ما فشلت تلك المرأة في العثور على الرجل الذي كانت على موعد معه. حينها تنفتح أمام البطل أبواب متاهة عجيبة، تدير دروبها العصابات التي أضفى بعضها على سلوكه طابعاً دينياً. بعد ليلة شاقة يقضيها البطل مع تلك المرأة في أحد الفنادق الرخيصة بعد أن حصلا على عقد زواج مزور يفر منها، غير انه يعاود البحث عنها فيدخل حينها إلى متاهة جديدة، كانت دروبها تعج بالسماسرة والمومسات والراكضين ببؤس وراء متعة عابرة. في ذلك العالم الكئيب، المنزوع الرحمة والمترع بالشهوات الرخيصة، يكتشف الراوي ضالته في بشر محطمين، هم بقايا الأمس وضحايا اليوم. لا الأسماء حقيقية ولا الحكايات الشخصية يمكنها أن تقود إلى حياة بعينها. كل شيء منتحل وغامض وموقت. مسحوراً بفتيات ذلك العالم يفقد الراوي وظيفته لينغمس في لذائذ ومسرات، غالباً ما كانت رائحة عفن المكان تفوح منها. وكما يبدو فإن الراوي وقد نجح في الهروب من عالم الشر قد وجد ضالته في الهبوط إلى عالم سفلي، كانت أصداء ما يجري على الأرض تصل إليه خافتة، من غير أن تهدم بنيانه الذي كان هشاً أصلاً. لقد أترعت نفس الراوي بالمحرّمات ولم يتخلّ عن بحثه عن صديقته، التي سيعثر عليها لاحقاً في مبنى وزارة الدفاع التاريخي المهجور الذي غزته العوائل المشردة بعد أن حطم الاحتلال الدولة العراقية. لن تنتهي الرواية إلا بمقتل تلك المومس، في زمن الرؤوس المقطوعة. يومها لم تعد البطلة للراوي إلا رقماً مضافاً في لائحة الضحايا. كلما تقدم المرء في قراءة الرواية يشعر أنه هو الآخر قد تورّط في الانزلاق إلى عالم، لن يكون إنسانياً في الهروب منه ونسيانه، غير أنه في كل صفحة ينتقل إليها من الرواية سيكون أكثر حذراً من أن تتسخ روحه بلغة ذلك العالم. حين سألت سعد هادي «من أين لك كل هذه المعرفة بتفاصيل ذلك العالم؟» قال «إنه الخيال الروائي» وهو ما لن يصدقه قارئ الرواية.