المدون من الفقه الإسلامي هائل في كمه وعدده، على اختلاف وتنوع مذاهبه ومدارسه، باختلاف نشأتها وظروف تكونها، وباختلاف تحولاتها وتموجاتها، والدخول في تفاصيلها واستقراء حالها غاية في الأهمية لفقيه اليوم، وذلك لأسباب: أولاً: أن هذا الكم من التراث تشكل متنوعاً متعدداً في مصادره وطرائق فهمه وانتماء مدارسه، وتأثره بظروف الاجتماع والسياسة والاقتصاد و... ولا يمكن فهمه معزولاً عن كل هذه المؤثرات، أو النظر إليه بقداسة تمنع من النقد والتحليل والتفكيك والإضافة والتطوير أو التجاوز لما لا ينفع أو لما يضر. ثانياً: أن فقيه اليوم تهيأت له أسباب الاتصال المتعدد بالمعلومة الفقهية وبالقوة التقنية السريعة، فأصبح بإمكانه ممارسة دور أو أدوار مختلفة للتركيب الفهمي، بل والاختبار العلمي للمنتجات الفقهية. ثالثاً: أن جغرافيا المكان ضعفت جداً في تأثيرها على الفقيه وفقهه، وأصبح التأثير الراهن لجغرافيا الزمان وجغرافيا المصلحة وجغرافيا الأحداث والوقائع، والأهم والأخطر جغرافيا المستقبل! فالمفترض بفقه اليوم ألا يفاجأ كثيراً بالوقائع، بقدر ما يكون مشاركاً في تشكيلها. بهذه الثلاثية تتولد أسئلة محرجة وملحة على الفقه الراكد والمنتج الساكن، أسئلة ناطقة وأخطر منها الصامتة، إنها أسئلة الناس، أسئلة المؤسسات، أسئلة الأحداث، أسئلة المستقبل. أسئلة بعضها لا ينتظر الجواب بقدر ما يلفت الانتباه لواقع مختلف ومستقبل ليس بالمجهول بقدر ما هو قوي وعنيف على الجهل والتخلف، أسئلة تترك الإجابة خياراً صعباً لإنسان العصر بين «الروح والشرور» على قول فولتير: «من لم تكن له روح العصر كانت له شروره». اسمية «الفقه المعاصر، وقضايا العصر، وفقه النوازل» ترددت في حراك فردي ضعيف، أو مؤسساتي رسمي يتراجع بقدر ما يتقدم، أي أنه في مربعه الأول، ولم يخرج منه إلا ما تمثل في فتاوى هنا وهناك، أو قرارات محدودة، أي لا مناهج ولا برامج! والسؤال الكاشف المطروح عليه: أين هو التكوين النظري. أي «بناء النظرية»؟ إذ لا نزال نخلط كثيراً بين العلم والنظرية! حتى تضخمه ظاهرة «طالب العلم» إلى درجة تفشى معها الفساد المعرفي، بل فساد الذوق، إذ لا ملكة فقهية ولا دراية واعية للفقه وعلاقة التشابكية بالتنمية والحضارة. هذا لا يعني تجاهل جهود موجودة، ومحاولات مشكورة، لكنها ليست بقدر الدور الحيوي للفقه الإسلامي، وليست أيضاً بقدر الهالة التي توحي بها عناوين الكتب والمصنفات، والبرامج والخطابات، والندوات والمؤتمرات، والمواقع الإلكترونية والمدونات! الذي أدعو إليه: 1- أن يتحول العلم إلى «معرفة منظمة» تتجاوز حال التكوم والفوضى التي أساءت إلى العلم وأهله. 2- بناء العقل المنظر القادر بملكته وحرية إرادته على بناء «النظرية الفقهية المعاصرة». بيد أن بناء النظرية لا يجيز للفقه صاحب الشأن أن يحبس نفسه في حقل معرفي واحد، بل هي تعتمد العقل المفتوح الذي يعمل وبقدرة جديرة على التنقل بين الحقول المعرفية، القديم والجديد، المتفق والمختلف، المعلوم والمجهول، الممنوع والممتنع، الحاضر والمستقبل، ولن أقول «القريب والبعيد» لأنها ثنائية حسمتها قوة الاتصال وسرعته، كما أن العقل المفتوح صاحب الأمل في «تكوين النظرية» يمارس النقد ويتقبله، إذ مهمة النقد خلق الضمانة واختبار المعرفة وتحليل العلم. لقد جاء الإسلام بمصطلح رائع جميل نفهم منه هذا الدور، فقد عبر القرآن الكريم بمصطلح «التفقه» في قول الله (ليتفقهوا في الدين) فالتفقه حال فوق الفقه. إن غياب هذا الدور سيتيح الفرصة - وبشكل طبيعي حين تنحسر الحسنات - للانتشار السلبي للمسمى الفقهي، وهو واقع نعيشه في المدوّنات والإعلاميات بعامة، إلى حد أقول معه «إن هدف الفقه ورسالته ليست واضحة عند الفقيه ذاته! والمنتجات والممارسات شاهد عدل! ومن هنا فالوعي المبادر لإدراك الحال ضرورة لا تسمح بالاختيار فضلاً عن التراخي، يحتار الأمر إلى قوة معرفية تدعمها إرادة قوية، يحفزها إدراك المخاطر، وقوة المقبل. لست هنا لتبسيط التفعيل، فبالطبع سيكون هذا مشروع حياة تتضافر فيه أفكار وجهود وأموال ونظم وسياسات، وله الوسائل والآليات، لكن حسبي بذر الفكرة، وتحريك الركود، واستيقاظ الوعي، وعلى الله قصد السبيل. [email protected]