اعتبر الباحث في الفكر الإسلامي رائد السمهوري، الاستدراك الذي قام به جمع من العلماء على «فتوى ماردين»، غير كافٍ، وإن أقر بأنه بداية موفقة، لنقد تراث المؤثر الأكبر في تاريخ الحركات الإسلامية في العصر الحديث «ابن تيمية»، وهو الذي عدّته شخصية إسلامية «أبا الصحوة الإسلامية». ورأى السمهوري الذي ألّف كتاباً خصصه لنقد «الخطاب السلفي» متخذاً ابن تيمية نموذجاً له، أن الفقهاء الماردينيين حتى وإن صححوا التصحيف الذي جرى لفتوى «ماردين»، إلا أن كثيراً من الآراء المثبتة عن شيخ الإسلام، توثق أنه يذهب إلى آراء تصعب ترجمتها في العصر الحاضر، من دون أن تحدث إشكاليات جوهرية، فمعظم من تنطبق عليهم الصفات التي دعا إلى مقاتلة المتصفين بها، هم اليوم جزء من تكوين جمعٍ من الدول والشعوب الإسلامية. وتبعاً لذلك يرى السمهوري أن إجلال ابن تيمية ينبغي أن لا يدفع إلى الخجل من نقد ما لا يناسب الواقع من تراثه المهم. في ما يأتي نص وجهة نظره: تابعت أهم مجريات مؤتمر ماردين والمقالات التي كتبت حوله، ولأنني أحد الذين قرأوا تراث شيخ الإسلام - يرحمه الله - في أهم إنتاجاته، وأصدرت في ذلك أخيراً كتاباً سميته: «نقد الخطاب السلفي: ابن تيمية نموذجاً» طبعته دار طوى، أحسب أن لي وجهة نظر يسرّني أن أقدّمها لعلي بهذا أضيف شيئاً في هذا الموضوع المهم. لا شك أن للسياقات الزمانية والمكانية وللظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتربوية، إضافة إلى العوامل النفسية، والطبيعة الشخصية؛ أثرها في تكوين الإنسان بطريقة ما. ولا نستطيع بحال من الأحوال عزل الإنسان عن محيطه، ولا نستطيع إركابه آلة الزمن للخروج به عن روح العصر الذي أحاط به من جميع جوانبه مهما تكن منزلته العلمية، ومهما يكن شأنه عالياً، وأثره بليغاً، وليس شيخ الإسلام - يرحمه الله - بدعاً من الناس في خضوعه لنواميس الكون وسنن الاجتماع الإنساني. فلا بد من الالتفات إلى تلك العوامل حين يراد الكلام عن التراث الإنساني في حقبة ما عموماً، وحين يراد النظر في تراث أحد الفاعلين الاجتماعيين تخصيصاً، ولا يشذ شيخ الإسلام عن هذه القاعدة. وكما لا يصح إخراج الشخصية المدروسة عن عصرها لأن هذا مخالف لطبائع الأشياء، فكذلك لا يصح أن نخرج نحن أنفسنا عن روح عصرنا وظروفه لنعيش زماناً غير زماننا، ونناقش مشكلات غير مشكلاتنا، وننشغل بقضايا غير قضايانا؛ لأن هذا أيضاً مخالف لطبائع الأشياء ومصادم لسنن الاجتماع الإنساني. إذا وضحت هذه المقدّمة فمن الطبيعي القول إن ابن تيمية - يرحمه الله - أطلق فتوى ماردين على وفق ظروف معيّنة وحالة خاصّة وسياق محدّد، فليس هو ملوماً باجتهاده في قوله بالدار المركّبة لأنه عاش عصره وزمانه على وفق ما تقتضيه الحال، ذاك أن أوضاع الاحتلال والنزاع والقتال ليس بأمر جديد على أمة الإسلام في عصور لم تخلُ من العلماء البارزين والمصلحين الكبار، غير أن أحداً - بحسب معلوماتي المتواضعة جداً - لم يسبق شيخ الإسلام في مفهوم الدار المركّبة الذي كان اجتهاداً مبتكراً جديداً وعبقرياً منه في ذلك الحين خاضعاً لتلك الظروف والأحوال، بغض النظر عمّن وافقه أو خالفه فيه. ونحن في زمان غير زمان شيخ الإسلام، ومشكلاتنا مختلفة عن مشكلاته، وعلماؤنا الكرام قادرون على وفق المتغيّرات المستمرة أن يجتهدوا كما اجتهد على ضوء عصرهم ومشكلاته وسياقاته. ومن أجل هذا قام مؤتمر ماردين. قام ليقدّم اجتهاداً جديداً على ضوء متغيرات هذا الزمان ومشكلاته، مستلهماً المصلحة الجمعية للمسلمين، وليبيّن أن بعض الآراء الاجتهادية كتقسيم الدور - وهي من القضايا المهمة في عصرنا والتي تنبني عليها مسائل كثيرة - هو تقسيم اجتهادي مبني على فهم «بشري» للشريعة لا يعبّر بالضرورة عن حكم شرعي قطعي ومعصوم وثابت، وأنه قابل للتغيير بحسب مجريات الأحداث واختلاف الأزمنة، وتبدّل الأحوال، وهو ما أوضحه رئيس المؤتمر العلامة عبدالله بن بيّة - يحفظه الله - في أكثر من موطن. كان من أبرز ما لفت انتباهي ما أكّده فضيلة العلامة ابن بيّة وذكره أيضًا الشيخ الطريري من أن هناك تصحيفًا في فتوى ماردين، وأن هذا التصحيف محدث طرأ قبل مئة عام فقط، ثم انتقل إلى الطبعات الحديثة من الفتاوى وانتشرت بين الناس مصحّفة، واعتمدت عليها - على حالها تلك - الجماعات القتالية. هذا التصحيف الوارد في فتوى ماردين هو قول ابن تيمية: «وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة: فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين. ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، و(يقاتل) الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه» ا.ه. والخلاف وقع في جملة: «ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه». فكلمة (يقاتل) مصحفة عن الكلمة الصحيحة في هذه الفتوى وهي: (يعامل) كما أوضح العلامة ابن بيّة وكذلك الشيخ عبدالوهاب الطريري. وهنا يقول الدكتور الطريري - حفظه الله - وهو أحد من حضر المؤتمر منذ مرحلة الفكرة وحتى الانتهاء، يقول: «ولو لم يكن من نتائج المؤتمر إلا إشهار هذا التصحيح لكان إنجازاً حقيقاً بالحفاوة» ا.ه. والتركيز على هذا التصحيف في الفتوى والاحتفاء به يوحي بأن مشكلة الفتوى حلّت بكشف التصحيف الوارد، وهكذا فبالإمكان التخفيف من غلواء هذه الفتوى، وتضييع المتّكأ النظري الذي تعتمده جماعات العنف. غير أن القول بالتصحيف لا يحل المشكل، فحتى لو كانت الجملة هي: «ويعامل الخارج على الشريعة بما يستحق»، فإن ابن تيمية يرحمه الله يوضح لنا - في غير ما موضع من فتاواه - الأصل الكلي الواجب اتباعه في (معاملة) الخارجين عن شريعة من شرائع الإسلام، فيقول: «أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، فلو قالوا: نصلي ولا نزكي، أو نصلي الخمس ولا نصلي الجمعة ولا الجماعة، أو نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، أو نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه، أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين، وأن أهل القبلة كفروا بالله ورسوله، ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة، أو قالوا: إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين، أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وما عليه جماعة المسلمين، فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة وجاهدوا الخوارج، وأصنافهم وجاهدوا الخرّمية والقرامطة والباطنية، وغيرها من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام» ا.ه. (مجموع الفتاوى 28: 468)وبغض النظر هنا عن تلك الاختلافات الظاهرة في هذه الأقوال التي ضربها ابن تيمية أمثلة على معنى الخروج عن الشريعة عنده، إذ من تلك الأقوال ما يقول به طوائف من أهل القبلة بتأويل وفهم، كما أن من تلك الأقوال ما هو كفر صريح، أقول: بغض النظر عن الاختلاف بين تلك الأقوال السابقة إلا أن شيخ الإسلام يماثل بين أصحابها، ويطلق حكمًا واحدًا يعمّها جميعًا، هو: وجوب جهادهم كما جاهد المسلمون الأوائل مانعي الزكاة والخوارج وغيرهم. وفي موطن آخر يضرب لنا شيخ الإسلام أمثلة أخرى على معنى كلمة الخارجين عن شريعة من شرائع الإسلام فيقول: «كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة». إلى أن قال: «وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها، مثل أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته أو التكذيب بقدره وقضائه أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور». ويستدل ابن تيمية بعد هذا بقوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال/39]، ويقول: «فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله». ا.ه (مجموع الفتاوى 28: 510). وهناك مواطن أخرى غير هذين الموطنين يتضح لنا فيها بجلاء حقيقة مراد شيخ الإسلام في فتوى ماردين من قوله: «ويعامل» الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحق. هذا على افتراض أنها مصحّفة، وواضح بعد هذه النقول أنه لا فرق بين (يعامل) أو (يقاتل) لأن النتيجة واحدة، فلو كانت (يقاتل) لكانت معبرة عن الأصل الكلي الذي يعتمد عليه ابن تيمية في معاملة الخارج عن الشريعة، ولو كانت (يعامل) فلقد أوضح لنا شيخ الإسلام أن هذه المعاملة إنما هي القتال الذي أطلق شيخ الإسلام القول بوجوبه في أصناف الناس تلك، كما نقلنا عنه. وحين نرى الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام يرحمه الله في فهمه لمعنى (الخارج عن شريعة من شرائع الإسلام) الذي يراه، ثم نلتفت حولنا فسنجد أن من طوائف المسلمين اليوم ومن مواطني الدول الإسلامية فضلاً عن غيرها من يستحق القتال على وفق هذا الأصل الكلي الذي أوضحه شيخ الإسلام مراراً.