تاريخ ونظرة» (صادر بالفرنسية عن دار ضرغام - بيروت) يُمكن أن يجد فيه مرجعاً مهماً حول تاريخ طب النفس في لبنان. وهو من المجالات التي ظلّت محاطة بشيء من التكتم والسرية. أنجز الدكتور سامي ريشا، رئيس قسم طب النفس في مستشفى أوتيل ديو ورئيس الجمعية الفرنكوفونية لعلم النفس، هذا الكتاب سائراً على خطى المفكر الفرنسي ميشال فوكو الذي كتب تاريخ الجنون والتحليل النفساني في فرنسا، معتمداً على وثائق ومعلومات، بهدف أن يسدّ ثغرة في مجال توثيق الطب النفساني في لبنان، فجاء كتابه في 352 صفحة، مقسماً إلى قسمين، تزينه مجموعة من الصور والوثائق التاريخية التي تاتي مكمّلة للنص. كتب الروائي اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجار مقدمة الكتاب معتبراً أن المؤلف ريشا «أخرج من الظل مهنة لطالما اتسمت مزاولتها بنوع من التكتم، مُبرزاً بذلك مزاياها، وفاتحاً العيون على تطورها وتحدياتها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً». وتوقّع نجار «أن يثير هذا الكتاب اهتمام الناس العاديين والاختصاصيين على السواء، على رغم كونه علمياً و تأريخياً»، على اعتبار أنه «ركن أساسي في تاريخ الطب اللبناني الذي يشكل مصدر فخر للبنانيين في الوطن والمهجر». وقال أيضاً إنّ «التطوّر العام على صعيد التكنولوجيا والطب وغيرهما سعى إلى راحة الإنسان، غير أنّه لم يحصل على هذه الراحة أو الطمأنينة المنشودة بتاتاً. القلق، الإدمان، الأمراض النفسية كلّها أزمات مازالت تضرب الناس، وخصوصاً في المجتمع اللبناني حيث الحرب وعدم الاستقرار والانشقاقات الطائفية والسياسية وأمور أخرى لعبت بأعصاب المواطن وتوازنه. من هنا تأتي أهمية دراسة طبّ النفس في لبنان التي روى حكايتها سامي ريشا في كتابه، مكرّماً روّاد هذه المهنة التي تطورت كثيراً في لبنان خلال السنوات الأخيرة. وهو يقف عند مفهوم «العصفورية»، الكلمة التي كانت تُدهشني كلّما سمعتها، وعند «دير الصليب» الذي أسسه الأب يعقوب الكبوشي، الذي رويت حياته في «رجل العناية الإلهية» وعند كبار أطباء النفس اللبنانيين، وذلك في الجزء الأول من الكتاب. بينما يعود في القسم الثاني ليُعاين الحالة العامة لطب النفس اللبناني مروراً بالمشكلات الصعبة التي تهدّد هذا المجتمع من أمراض عقلية وإدمان ومثلية وأزمات أخرى لم تكن تُطرح علناً، في شكل علمي وموضوعي موثّق». يبدأ الدكتور سامي ريشا في أخلاقيات علم الأحياء، من بداية الطب النفساني في لبنان في العام 1900، مشيراً إلى أن مؤسستين طبعتا تاريخ هذا الطب في لبنان: الأولى فتحت أبوابها في العام 1900 وعرفت باسم «العصفورية»، والثانية وهي مستشفى الصليب للأمراض العقلية والنفسية، رأت النور في العام 1951، وأسسها الطوباوي الأب يعقوب الكبوشي. ويشير ريشا إلى أن «العصفورية» التي كانت تابعة للجامعة الأميركية في بيروت، تولّت معالجة مرضى لبنانيين ومن كل دول منطقة الشرق الأوسط، كانوا يقصدونها ليقيموا فيها، جزئياً وأحياناً مدى الحياة. أما مستشفى الصليب للأمراض النفسية والعقلية فاستقبل أعداداً كبيرة من المرضى منذ العام 1951، وتولّى إدارته أطباء للأمراض النفسية في مقدمهم البروفسور هنري أيوب، إضافة إلى آخرين يتمتعون بخبرة كبيرة على غرار البروفسور إدوار عازوري والدكاترة أسعد راي وإدوار موريتي وإلكسندر حبيب وسواهم. وروى ريشا أن البروفسور أيوب، أحد رواد طب النفس في لبنان، قدّم أوّل درس عن طب النفس في كلية الطب الفرنسية في كانون الثاني (يناير) 1965، وهذه الحصّة الدراسية تناقلتها وسائل الإعلام اللبنانية لأهمية هذا الحدث آنذاك. وذكّر ريشا بأن كلية الطب في جامعة القديس يوسف كانت السبّاقة في هذا السياق منذ ثمانينات القرن العشرين، إلى استحداث برنامج تخصصي في الطب النفسي يلي إنجاز دراسة الطب، ويمتد على خمس سنوات، ما أتاح لمجموعة كبيرة من الأطباء اللبنانيين التخصص في طب النفس. وتوقف ريشا عند ولادة الجمعية اللبنانية لطب النفس في العام 1983 ضمن مثلث سمّي آنذاك «الجمعية اللبنانية لطب الأعصاب وجراحة الأعصاب والطب النفساني». وعرض المؤلف كذلك لتاريخ العلاجات التي كانت تعطى للمرضى والدراسات العلمية الأولى، معتمداً على وثائق تُثري الكتاب وتدعمه. يمثّل كتاب الدكتور سامي ريشا خطوة أولى وراسخة نحو وضع تاريخ تحليلي وعلمي للطب النفساني في لبنان ومعالمه ومصحاته وروّاده، وكتابه هو مرجع واف وشامل وخير مدخل إلى مقاربة قضية الطب النفساني في لبنان. ويستمد الكتاب أهميته في ما ضمّ من صور ومقالات ووثائق مصورة ونادرة وهي بمثابة شهادات تضاف إلى مادة الكتاب وفصوله.