يتسارع الزمان الكاشف، ليخطفهم، وهم يتبارقون، فيزيدون من حرارة اللغة إيحاءات، ورؤيا، ربما يفعلون ذلك، ليغادرونا، تاركين في أرواحهم مقامات لا تبدأ ولا تنتهي، لأنها، فقط، لا ترغب في المحو، ومن هذا المكتوب المتكاثف بإشاراتهم الواضحة حدّ الاشتعال، قرأت "العصفورية"، التي أهداني إياها مع روايته الأخرى "دنسكو". يقترب (غازي القصيبي) من تفكيك اللحظة السوسيولوجية والسايكولوجية والسياسية كراهن منقود بسخرية في روايتيه: (دنسكو) و(العصفورية)، حيث نلحظ كيف تتداخل سيرة الأنا بإشارية مع سيرة العالم المحيط تداخلا ً صراعياً نلمحه في "العصفورية" ، يتخذ منحنى (الفوضى) بحثاً عن (الوجود) في (اللا وجود)، ويغدو (فقدان الذاكرة) المرافق لحالة (جنون البروفسور) هو (الذاكرة) المتحركة كمعادلة عكسية متثاقفة مع الموروث والمعاش الواقعي العربي والغربي والوطني. يتمسرح النص الروائي بطريقة مشهديات فلاشباكية يؤديها الديالوغ كبوتقة رئيسة للمقول لا تقل عنها تدخلات الراوي المؤلف المتشكّلة فواصل لتجميد السرد المتوسل ل (الجنون) ك (إيقاعات) تحكم (النص الراوي) و(النص المروي)، واسمة أبعادهما بالسخرية (التراجيكوميدية) المتبادلة تقمصياً بين (البروفسور) و(الراوي المؤلف) مما يجعل الشخصية نفسها راوياً سارداً "عالماً بكل شيء ": بالأمكنة والأزمنة والأحداث والشخوص والتفاصيل ومجريات الذاكرة الجمعية والذاتية المبنية على وعي بلحظاتها التاريخية وب (المخيلة المتضخمة) الهاجسة بالكشف عن المبنى (العربستاني) المبتدئ بعربستان (48)، والمتحرك بين رموزها المناورة على العناصر الزمكانية والشخوصية والحدثيّة، مانحة البنية المكتوبة فائضاً دلالياً يشير إلى ما جمعه من صفات الرموز السياسية غالباً، وصفات الرموز الأخرى الملامسة لواقع الأدب: من (شعراء/ نقاد/ روائيين/ ..). ويخادع النص أبعاده بالاستناد إلى أمكنة واقعية ك (البقاع /دجلة / مقهى الشام/ جنوب إفريقيا/ إنكلترا/ فرنسا/ أمريكا/..)، ويأتي الاستناد إلى المكان الواقعي استناداً استعارياً يتضافر في إنجاز المكانية المحورية للنص (العصفورية)، كحيز دلالي يبرر انحشاد الأفكار المتحركة في مجال الفوضى المقصدية التي تخفي وتعلن الشبكية العامة للرموز الاجتماعية والسياسية والأدبية عربياً وعالمياً: (الياس الهراوي/ سامي الصلح/أينشتاين/ هتلر/فرويد/هيكل/المتنبي/شكسبير/طه حسين/مي زيادة/العقاد/الطهطاوي/..)، و يضاف إلى هذه الشخوص الواقعية نسق الشخوص الرئيسة (البروفسور) والمستمع إليه (الدكتور سمير ثابت) كمتلق أول، و(شفيق الممرض)، وشخوص أخرى مساعدة تتكشف من خلال سرد البروفسور المعتمد على (ذاكرته) كفجوة توترية تتحول إلى بطل وأمكنة وأزمنة تتناوب على التداعيات بشكل لا منطقي، لتثبت حالة من (الجنون غير المطبق) من ناحية علم النفس، ولتثبت (واقعاً مجنوناً) من ناحية الدلالة الأوسع المتوارية بهيئة (غائية) موزعة في النص على تقاسيم ثيمتها: التهكم/السخرية الناقدة والكاشفة والدعابية: " أية حرب؟ الحرب الأهلية. الأمريكية؟ أو الإسبانية؟ حاجة يا بروفسور! اللبنانية. حرب أهلية في لبنان؟ مش معقول! الحروب الأهلية تحتاج إلى كثافة سكانية لو قامت حرب أهلية لمات الجميع. كلكم مليون إلا شويّ ص 16". وكما يشير النص، فإن للدكتور (ثابت) كمستمع ومتلق ومحاور ومشارك أحياناً، في إضاءة بعض النقاط، وظيفة المنظم للتتابعات الحدثية والزمانية. وتضاف إلى متواليات الإيقاع المتأرجح بين الفوضى والتنظيم (اللازمة) المتكررة على لسان البروفسور وهي تُوجه إلى المروي له: (عن ماذا كنا نتحدث؟)، كما لا تخلو أغلب الافتتاحيات من لازمة أخرى: (في الزمانات)، وتصبح هذه الجملة بوابة للدخول على الأحداث، وفي حال غيابها من المكتوب، تتحول حالة الشخصية الرئيسة إلى بوابة للانتقال من حكاية لأخرى، من حدث لآخر. ويتسم هذا الانتقال بتقاطعه مع الجنون مؤدياً وظيفة البعثرة المتنوعة: بعثرة الموجودات واللا موجودات والأفكار والأحلام والأمكنة والآثار والمقاصد وزوايا التبئير بعثرة سوريالية تختلط فيها شظايا الذات مع شظايا العالم، وتتمركز هذه البعثرة في نقطة مقارنة العالم العربي بالعالم الغربي من جهة، وتتمحور، من جهة ثانية، حول الكشف عن الشتات العربي بكل صعده ابتداء من اللغة الموزعة إلى (77) لغة، لم تسلم منها الرواية أيضاً؛ ولا انتهاء بمقارنة الكرم العربي بالسلوك الحضاري الغربي: "جامعة ستانفورد بنيت بتبرع من ثريّ أمريكي. ونحن العرب نعتقد أننا أكرم الناس ص 53" ولا ينسى الراوي المؤلف أن يكشف عن المثالب الأخرى، أو الوجه الثاني ل (حضارة) أمريكا: "كنا نرى بأعيننا سيطرة الصهاينة على الكونغرس، رغم الديمقراطية، وكنا نرى كيف الزنوج، الذين كانوا أيامها يسمون الملونين، يعاملون في المجتمع الأمريكي "الديمقراطي" ص56/ كنا نرى الملونين يبحثون في صندوق القمامة عن طعام وملابس (...) كنا نكره تلك العادة الأمريكية القذرة: تصويب قاع الحذاء إلى وجه المخاطب. وكنا نستغرب سماح الرجل للمرأة أن تدفع حسابها في المطعم أو المقهى وهي في ضيافته ص57". وتحفر الرواية في (الخراب الأمريكي) المنتشر حتى في (التربية والتعليم) حيث تقوم العلاقة بين المعلمة والطلاب على الجنس المشبوه، كما تستشري الأمراض النفسية في المجتمع الأمريكي كالخوف والفوبيا إضافة إلى التمييز العنصري اللوني. وتشتبك هذه المكاشفات مع واقعنا العربي المتجه إلى (تطوير التخلف والجهل) على كافة وحدات البنية المجتمعية، ويضاف إلى ذلك سرطان العقد: (عقدة الكرسي/عقدة الخواجة/عقدة دال الدكتوراه/عقدة الجنس/عقدة الرشاوي/عقدة الأنا/عقدة الذكورة/عقدة اللجان/..). وبين هذين النسقين كعالم محيط تنسرد حياة البروفسور وعلائقه العاطفية (فرحة الربيع/عفراء/الجنية "دفاية"/الفضائية"فراشة"/..)، ويفاجئنا بعلاقته ب (سوزي) كحالات إنسانية تنتهي باكتشافه نجمة داود فوق جيدها. (العصفورية) تعرّي بزخم حياتي منبسط الحكام والشعوب والتاريخ وتنزع إلى البحث عن إنسانية الإنسان في عالم مصاب بالجنون وهذا ما يجسده التناص الإحالي مع "كافكا" الذي يعبّر عن فقدان الإنسان لنفسه: "هل تعرف قصة كافكا "التحول"؟ الشاب الذي نام وصحا ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة كريهة قبيحة مجروحة؟ تصور شعوره، مجرد خيال مريض؟ لا، كان هذا، بالضبط، هو شعوري. نمت إنساناً، وصحوت حشرة قبيحة مجروحة، في مصحة عقلية، مع فارق وهو أنه في قصة كافكا لم يستجوب أحد الحشرة عن تاريخها الجنسي وعن مشاعرها نحو اليهود ص 89". وتتفكك رموز (عربستان 48/ عربستان 49/عربستان 50) ضمن شبكة الرواية لتحيل الإنسان العربي إلى (الحلم) بالنجاة من خلال اتجاهين: 1 ما تحت الأرض = عالم الجن. 2 ما فوق الأرض = الفضاء. إنه هذيان العالم المحيط المختزل في (العصفورية) التي شابكت احتمالاتها الباقية قيد الغيب في تصريح البطل كعاقل وحيد في النص: "قلت لك من البداية، أني لست مريضاً هنا. اسمعْ يا نطاسي، دفاية، الآن، حامل، والفراشة حامل، ذات يوم، سيطلع لك من الأرض ابني نصف الجني ويسألك عن تاريخ أبيه، وسيهبط عليك من فوق ابني نصف الفضائي ليعرف أسرار أبيه، وكل شيء الآن في عهدتك. سيسلمك المستشفى كل أفلام الفيديو. كل كلمة قلتها لك مصورة ومسجلة. إحذرْ أن يضيع شيء ص310". انتظار، وصية، وثائق، وتاريخ يؤتمن عليه الدكتور (الثابت) المضمِر في دلالته تبعاً لمقصدية الرواية لكل إنسان عربي يتساءل: أين الطبيب أو ذاك المخلّص الذي سينجو من مفارقات الشعارات والتطبيق؟ الذي سينجو من البرزخ والشتات والضياع والموت التاريخي المتكرر؟ تجيبنا الرواية عن هذا السؤال بإلماح: لا بد وأن تكون الأمة العربية هي الطبيب أو ذاك الجنين الذي ما زال ينتظر في عالم الغيب..لكن، متى ستنفض الأمة جنونها لتستعيد وعيها وتخرج من العصفورية؟ *** * من كتاب: هكذا تكلم الصلصال سردية السرد/ غالية خوجة/ دار عشتروت/ 2008.