أخيراً، بعد مسيرة سبعة عقود وسيرة تضاهي سيرة الشاطر حسن، أصدر أنطوان بارود، على مشارف السبعين، أوائله وأواخره دفعةً واحدةً، وارتاح في اليوم البعد الأخير. كتاب صغير يفيض بالمباغتات والطرائف والمبتكرات اللغوية. لكنه، على صغره، وسع أنطوان بارود على كثرته! فقد أفرغ فيه حاله فجاء مثل أنطوان بارود: خارج المألوف. «ديوان كلام»، يقول عنه صاحبه. لكنّه كلام بأشكال أخرى غير أشكال الكلام. كلام استضيع فيه صاحبه الورق، واستضيع الورق بهذا الكلام، كما يقول حرفياً. هذا ليس رأينا. لأنه كلام يفاجئ القارئ بالمبتكر عند كلّ منعطف سطر. وهو ينطوي على مجهود تأليفيّ يبدو أقرب إلى اللعب والطيش، لكنّ وراءه كدّا وجهدا. لقد حاول انطوان بارود أن يستقرئ المعاني المألوفة مجاهيلها المكنونة، فكان أن قلب كلّ شيء على كلّ شيء. مع ذلك لم يفلتْ من قلمه ذلك الخيط الرفيع، الذي يشدّ الخيال الى المفهومية والواقع. وهذا ما يجعل الكتابة عنه ممكنةً، ويجعله جديراً بأن يعرف، وأن يقرأ، وأن يقرأ بعناية وتمعن في ما يبدو بلا معنى، وهو في ما وراء المعنى والعناية بالبناء. كلام يدور على أطراف نائية للبيان، فيقع، احياناً، في مهاوي القول ومنقلباته. وكأنما أنطوان بارود قد فصد أعصابه وأجرى عصابها في هذا الطفح المعصوصف على حدود الوصف: جنون، وهلوسات، وتخيّلات، وطيش لغويّ أو تسكّع عاطفيّ إنما على خفر وتلميح حميم... وحنين. حنين يترقرق في السطور فور ما تداني الذكريات: «وجه أمّي في المرآة يؤكد لي أنني حيّ»... شارباً والده الأشعثان كشلْح أرزة هرمة آيلة إلى انكسار.»... «كان فلاحاً في الصيف معمرجياً في الشتاء، كانت عدّة عمره منجلاً ومطرقة وكان يمينياً متطرفاً». «في عزّ سنّ اليأس... سنّ التقاعد... عاطلا عن الكلام»... لا. لا فائدة من تقديم الشواهد على تلك البهلوانات اللغوية الشيّقة، التي تشوّق في هذا الكتاب (وهل هو حقاً كتاب) وتشدّ القارئ من أول سطر حتى آخر كلمة.` وليست أقلّ طرافات أنطوان بارود أنه سرق عنوان كتابه من أشهر السارقين العرب، وأهضمهم، عنيت ثابت بن أوس الأزدي. نعم ما سواه: الشنفرى. هل من يعتدي على من جعل الاعتداء على الناس مهنةً يعتاش منها؟ هذا ما فعله بارود ربما لشعور منه بوحدة الحال مع صعلوك العرب الشهير، فاختلس منه عنوان غزوة هي بمثابة الحرب العالمية أوجزها الشاعر بثلاثة أبيات واختصرها بارود بليلة ليلاء لائلة: وليلة نحْس يصْطلي القوْس ربّها وأقْطعه اللاتي بها يتنبّل دعسْت على غطْش وبغْش وصحْبتي سعار وإرزيز ووجْر وأفْكل فأيّمْت نسواناً وأيْتمْت إلْدةً وعدْت كما أبْدأْت والليل ألْيل لعل هذه «الليل الأليل» قد لخصت الشنفرى الباريسي، كما قفلت معركة الجاهليّ الظريف، فاستلهم لامية العرب ليكتب لامية الغربة. من يدري؟ فقد تكون مكابدات أنطوان الفرنسية تشابه معاناة ثابت بن أوس الجاهلية: ففي التقارب، على التباعد، قربى... منذ الصفحة الأولى «فكّ بارود ربطة عنق الزجاجة ... وأخواتها» ليكتب «سفر تكوين الفشل»، فكان فشله نجاحاً، وزجاجته سكراً طيّباً، و «مكسر عصاه» مكسراً أدبياً جميلاً، ممتعاً، ومحبّباً، نرتاده بمتعة. * شاعر لبناني مقيم في باريس