في تراثنا الأدبي ذخائر أدبيَّة بقيت راسخةً في الأذهان، يتناقلها النَّاس جيلاً بعد جيل، ويستشهدون بروائعها، ويُمعنون النَّظر فيما تحمله من حكمة وخلاصة تجارب الحياة، ومكابدتها، وخوض معتركها حتَّى لكأنَّها تُصوِّر ذلك الواقع الذي عاشه الأدباء في عصورهم، وما كابدوه في حياتهم من خوض ذلك المعترك والإصطلاء بهمومه ولأوائه . وقد وجد في تراثنا ما يُجسِّد هذا المنحنى، ويحمل هذا الاتِّجاه عبر قصائد شعريَّة، رويُّها « اللام»، وتعرف « باللَّاميَّات « ومن أشهرها لاميَّة ثابت بن أوس الأزدي الملقَّب ب» الشَّنْفَرى» الذي اشتهر بقصيدته الموسومة « بلاميَّة العرب»، يقول فيها : أقِيمُوا بَني أمِّي، صُدُورَ مَطِيِّكُم فإنِّي إِلى قومٍ سِواكُمْ لَأَمْيَلُ فقد حُمَّت الحَاجَاتُ، واللِّيْلُ مُقْمرٌ وشُدَّت، لِطيَّاتٍ مَطَايَا وأرحُلُ وفي الأرضِ مَنْأىً، لِلكَرِيم، عن الأَذَى وَفيها لِمَن خاف القِلى، مُتعزَّلُ لَعَمْرُكَ، مَا بِالأَرضِ ضيقٌ على أمرئٍ سَرَى رَاغِباً أو رَاهِباً، وهو يَعْقِلُ وهي تتجاوز ستِّين بيتاً، زيَّنها بصفات شتَّى للعربي الأصيل ابن الصَّحراء، الذي عارك الحياة، وذاق فيها صنوف الأذى، ولكنَّه صاغها في مجموعة من القيم النَّبيلة، التي تتسم بالمروءة، والشَّجاعة، والإيثار والشَّهامة والقناعة، يقول: وإن مُدَّتْ الأيدي إلى الزَّاد لم أكن بأعجلهم، إذ أجْشَعُ القومِ أَعْجَلُ أُدِيمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُمِيتهُ، دوأضربُ عنه الذِّكرَ صفحاً، فأذهَلُ وأستفُّ تُرب الأرضِ كي لا يَرَى لهُ عَليَّ، من الطَّوْلِ امرُؤ مُتطوِّلُ ولكنَّ نفساً مُرةً لا تقيمُ بي على الضَّيم، إلا ريثما أتحوَّلُ لقد اتَّخذت القصائد اللاميَّة خطَّاً ممتدَّاً في منهج القصيدة العربيَّة القديمة، فبعد لاميَّة الشَّنفري جاءت لاميَّة الأعشى ثم لاميَّة الحطيئة ثم لاميَّة ابن المُقري، وجاءت بعدها لاميَّة مؤيِّد الدِّين الأصبهاني المعروف «بالطُّغَّرائي»، وسميِّت «لامية العجم» لمضاهاتها لاميَّة العرب في حكمها وأمثالها، وأشاد بها القدماء ومنهم صلاح الدين الصَّفدي الذي قال عنها: «إنها محكمة الأسلوب في الفخر والعتاب، مطرية في وصف الحال وشكوى الزَّمان بما يصدع الألباب، أنيقةٌ في ابتداع الحكم واخترع المثل». قال فيها: أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأمَلِ لم أرتضِ العيشَ والأيامُ مقبلةٌ فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عَجَلِ غالى بنفسيَ عِرفاني بقيمتِها فصُنْتُها عن رخيصِ القَدْرِ مُبتَذَلِ وتتجلَّى القناعة لدى صاحب اللاميَّة في أمور الدَّنيا الفانية عندما يتيقَّن أن هذه الدَّار لا بقاء فيها، فهو يراها كالظِّل الذي يزول، يقول: يا وارداً سؤْرَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ أنفقتَ عُمرَكَ في أيامِكَ الأُوَلِ فيمَ اقتحامُكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ؟ وأنتَ تكفيك منه مصّةُ الوَشَلِ مُلْكُ القناعةِ لا يُخْشَى عليه ولا يحتاجُ فيه إِلى الأنصارِ والخولِ ترجو البَقاءَ بدارِ لا ثَباتَ لها فهل سَمِعْتَ بظلٍّ غيرِ منتقلِ؟ إنَّها نظرات التَّأمُّل والتَّفكُّر في هذه الحياة، واستكناه طبيعتها، وحقيقة زوالها وانقضائها وهو المضمون الذي دندن حوله كثير من شعراء اللَّاميَّات.. وللحديث بقية إن شاء الله. * الجامعة الإسلامية – المدينة المنوَّرة Mh1111m@ : تويتر [email protected]