أمضى انطوان بارود حياته في باريس هائماً بين المحابر والأحلام وأثير اذاعة مونتي كارلو. أربعون سنة ختمها أخيراً «شقي» الصحافة اللبنانية والعربية باسطوانة حفر فيها لوعات الغربة. هنا كلمة عنها للشاعر جوزف صايغ. انطوان بارود إنسان خارج المألوف. وشاعر خارج المألوف. انفعالاته وتعابيره عن تلك المشاعر والانفعالات هي أيضاً خارج المألوف. هذا، كي لا نذكر القبعة التي تعلو شعره الكث النثير، ومنديل الجيْب الطافح من «سيلة» السترة مالئاً نصف صدره، وأخيراً الخاتم الهمايوني في بنصره. أشياء وأشياء هي أيضاً لغة من لغاته الخاصة، الجامحة، يعبّر بها عن مزاجية مُسرفة بذاتها، وبعكسها، إسراف من يريد بها أن «يعتدي» على الناس وعلى العادات. جميع هذه المواد المتفجرة استعان بها انطوان بارود للتعبير عن عشقه باريس، وعما فعله هذا العشق به وبالمدينة وأشيائها. جمع كل ذلك في اسطوانة. اسطوانة لأنها تحمل صوتاً. صوته الخاص، الذي يلعب الدور الرئيسي في تلك اللوحات الصوتية. عنوان الاسطوانة العربي «دوّار القمر». والعنوان الفرنسي «السلام عليك يا باريس». «دوّار القمر» خليط من كلام وموسيقى، ومن هذيان لغة تريد اللغة وسواها وعكسها وضدها معاً وفي آن. ليقال أضغاث حلم لغوي على اتصال بياني وانفصال معنوي، تزاحم فيه الصور مشتقاتها، والمشتقات أضدادها، والمعاني العربية الأغاني الفرنسية. جنون لغوي. جنون فذّ أو هذيان صاح لا يُفلت خيطاً واضحاً حتى يُمسك بمثله على غموض، أو بعكسه على جناس، أو بما لا علاقة له بقبله أو بعده. أجواء. أجواء يريد اشاعتها بالكلام في نفس السامع. أجواء باريسية يحاول اعادة ابتكارها كما اشتعلت في نفسه، وكابدها طوال شبابه في هذه المدينة. تعييش السامع أجواء باريس بالكلام والموسيقى. وأي كلامّ! وأية تلاوين! تظنه تخبط في المفردات خبطاً عشوائياً لعجزك عن اللحاق به، أو إدراكه عند وقف، أو تمهله عند فاصلة، أو «سقوطه» في فخ من أفخاخ المفهومية. الفهم عنده، غير المقصود: الاحساس، الدوران، الانتشاء هو هو المقصود والمنشود من الانشاد. كل ذلك بصوت ذي أوتار «اذاعية»، أي أكثر ما يلائم البث الاذاعي الدافئ، الحار، العاشق، يخدّر الأذن الصاغية ويستثير في كوامن النفس عواطف تلمح عبرها سمات المعشوقة: باريس.