أثارت موجة التعاطف مع فرنسا في أعقاب أحداث باريس نقاشاً واسعاً في تجاهل الإعلام الغربي ضحايا تفجير برج البراجنة الذي تبناه «داعش» قبل ما لا يزيد بكثير عن أربع وعشرين ساعة من تفجيرات فرنسا. لم يطل النقاش، حتى قيل عن وجه حق إن الإعلام لم يتجاهل، وأن المشاهدين هم من فعلوا ذلك. بضع ساعات قضيتها ليلة الخميس في متابعة تغطية القنوات اللبنانية المباشرة للتفجير، كانت حافلة بالتسريبات والتحليلات والاتهامات والاتهامات المضادة ومطعمة بكم هائل من التلميح والتحريض. تغطية القنوات الغربية التي أعطت الحدث مساحته، لم تخلُ هي الأخرى من تعميمات. الوضع على صفحات التواصل الاجتماعي لم يكن أكثر هدوءاً. توتر ولهجات حادة، لم تخلُ في كثير من الأحيان من شماتة واضحة وصريحة. على رغم تشابه الأحداث بين بيروتوباريس، من حيث التبني والأسلوب والاستهداف للمدنيين في مناطق مكتظة، جاءت الاستجابة مختلفة تماماً ليطغى التضامن في الحالة الثانية. لا أتحدث هنا عن التضامن المؤسساتي، سواء كان ذلك من قبل الحكومات التي أضاءت معالم مدنها بألوان العلم الفرنسي، أم الشركات مثل «فايسبوك» و «اوبر» و «امازون» التي نجحت بالتعبير عن دعمها بأشكال مختلفة، كانت في شكل أساسي وراء مساءلتها عن تجاهل بيروت وأحداثها. لا أتحدث حتى عن التضامن الثقافي، كأن تعزف «المارسييز» في أماكن غير متوقعة وغير مسبوقة من قاعة «المتروبوليتين اوبرا»، من نيويورك إلى ستاد ويمبلي في لندن. أتحدث عن نوع آخر من التضامن الخاص والشخصي. بعد الصدمة الآتية من مدينة أحبها، كان القلق على مصير اللاجئين السوريين إلى اوروبا، في حال ثبوت تورط واصلين جدد إلى فرنسا بالتفجيرات. ساعات مرت من دون أي معلومات عن الإرهابيين: لا شيء، لا تسريبات ولا تحليلات ولا سيناريوات. باريس التي لم تشهد هذا النوع من العنف في شوارعها منذ حرب الجزائر، أظهر مراسلوها مهنية يحسدون عليها. الإعلام الفرنسي بدا شبيهاً ببقية الفرنسيين، يحاول هو أيضاً أن يعرف، يحاول أن يفهم، يتابع عن قرب، ينتشر في أمكان الحدث. لا يتذاكى. لا يهول. لا يقف في وجه عناصر الشرطة أو الإسعاف. داخل الاستوديوات، المشهد لا يقل رصانة. مظاهر الحزن ظاهرة من دون مبالغة. متابعة لما يجري على الأرض، وأيضاً لما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي ركزت في شكل أساسي على تحديد أماكن المفقودين وطمأنة الأهل والأصدقاء. لا موسيقى تصويرية. لا ابتزاز عاطفي. تمر الساعات. أعداد القتلى إلى تزايد. المعلومات الأولية تتحدث عن جواز سفر سوري وجد بالقرب من جثة أحد الانتحاريين، فيما معلومات أخرى تقول أن بعض الانتحاريين أوروبي. الصدمة تنسحب شيئاً فشيئاً تاركة مكاناً للحزن. مراسلو القنوات الفرنسية المنتشرون في المراكز الرسمية كما في المواقع التي تعرضت إلى الاعتداء، ينقلون من دون إثارة ما لديهم من جديد عبر رسائل مختصرة. داخل الاستوديوات ضيوف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يعبرون عن ضرورة الاعتراف بفترة حداد، وضرورة تجاوزها وضرورة مناقشة ما حصل، وضرورة فهم أسبابه وضرورة طرح حلول، لأن دور الضحية وحده لا يليق بفرنسا. تشتد الخلافات في الآراء وفي تحديد المسؤوليات، ولا يغيب عن المشاهد أن النقاش يأخذ إلى حد بعيد بعين الاعتبار انتخابات فرعية ستجرى بعد أسابيع، مع ما يعنيه الحدث من عامل ضاغط على الحزب الحاكم، وفرصة للأحزاب المتنافسة وعلى رأسها حزب الجبهة الوطنية. تغيب لغة التخوين عن أكثر الخطابات تشدداً. فرنسا بكل مكوناتها ضحية. «داعش» تبنى العملية، والمستهدف هذه المرة ليس من اعتبره المتشددون، غرباء كانوا أو فرنسيين، مخططين أو منفذين. المستهدف هو أسلوب حياتهم: متعهم الصغيرة، يوم عطلتهم، مباراة كرة قدم أو حفلة موسيقية أو مقهى. على الطريق كما داخل الاستوديوات، بدا الصحافيون بشراً قبل كل شيء، وفرنسيين ثانياً، ليتفاوتوا بعد ذلك شهرة وخبرة، ومهنية، واطلاعاً. صور الجثث والأشلاء التي وجدت طريقها إلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي لمن اختار أن يشاهدها، غابت عن شاشات التلفزة. الحزن بدا حقيقياً وعميقاً وضرورياً، مثل الدقائق التي أعطاها مراسل «لو بوتي جورنال»، للحوار بين طفل صغير خائف ووالده الذي يطمئنه إلى أن الزهور تحمي من الأشرار وبنادقهم، قبل أن يسأل الصحافي الطفل ما إذا كان يشعر بتحسن. الجرح العام، لم يبح بالحقوق الفردية. قصة السيدة التي شوهدت على مدى خمس دقائق وهي متدلية من شباك «البتاكلان» قبل أن ينقذها أحدهم، وعرف لاحقاً أنها حامل وأنها بصحة جيدة مع جنينها، مع احترام رغبتها بالحفاظ على خصوصيتها ومساعدتها على إيجاد منقذها عبر» تويتر»، واحد من عشرات الأمثلة. المرأة وفق صديق لها تعرفت إلى الرجل، وهي على تواصل معه. بقيت هويتهما مجهولة. غياب التشويق الهوليوودي، لم يخفف من قيمة الصورة ولا من عمقها، والتركيز على البعد الإنساني، لم يخفف من جدية وعمق النقاش الذي شارك فيه كبار الفلاسفة والكتاب والسياسيين ورجال الدين وأقطاب العلمانية. هذا ليس إعجاباً بمدينة فاضلة ولا تبسيطاً للمشهد الفرنسي بقدر ما قد يكون العكس. إنه مجرد توقف عند فاعلية إعلام أثبت في لحظة امتحان وفاجعة أنه مكمل حقيقي وضروري للمجتمع الفرنسي. حرية التعبير والتفكير والمعتقد بقيت مسلمة لا جدال حولها في أي نقاش، ولم تمنع المحاورين من طرح كل الأسئلة الصعبة، من فشل السياسات الأمنية والاجتماعية على مستوى السياسة الداخلية، إلى التبعية المهينة للولايات المتحدة على مستوى السياسة الخارجية، إلى أسباب نجاح «داعش» باستقطاب فرنسيين وفاعلية الحرب ضده، وصولاً إلى قضايا العدالة الاجتماعية، والهوية وأسباب اندماج المهاجرين أو عدمه. نجح الإعلام الفرنسي، بشقيه التقليدي والالكتروني في الحفاظ على الحق بنقل أصوات الفرنسيين، من دون الانزلاق إلى انغلاق يضعه على عداء مع أية جهة، داخلية أو خارجية. روج لفيديو جون براون، وهو يقول ل «داعش» ساخراً كم سيخسر في محاولة التغلب على ثقافة العيش في فرنسا، «في وجه أيديولوجيتكم البائدة، سيخرجون لكم، جان بول سارتر واديت بياف، وكاموس، والكروك ان بوش». انتقد محاولات الاستغلال السياسي، وحجم محاولات الاستفادة التجارية. تحت عنوان «شكراً امازون، لسنا في حاجة إلى مواساتك»، كتبت جيسيكا ريد تحقيقاً في «الغارديان» عن عدم قدرة الشركات على أن تتعامل في شكل حقيقي، مع المشاعر الإنسانية بما فيها الحزن. لم يبد دافيد بوجاداس متنازلاً عند انتقاله من استوديو كبار ضيوفه إلى ذلك الذي استضاف فيه غريغوري رينبورغر، صاحب مقهى «لا بيل اكيب»، الذي قتلت زوجته بين يديه. لم يبد مستعجلاً وهو يسأله عن ابتسامته المحيرة، ولا متهكماً من إجابة الرجل بأن الأمر «عادي» لأن عليه الاستمرار وعليه الاهتمام بابنته، إلى جانبه معالج نفسي، يقول بمودة ان وراء ابتسامة الرجل، وراء ابتسامة الفرنسيين جرح، لا بد من مقاومة الاستسلام له. لأن «هذه فرنسا». الخطاب بدا متماسكاً من دون أن يكون مفتعلاً، ناعماً من دون أن يكون مبتذلاً، كأن يطمئننا نيكولاس دو لا سال في مقال، إلى أن حالة «شبه اللطف» التي يمر بها موظفو المقاهي، لن تستمر طويلاً، وأن الباريسيين سيتوقفون عن الابتسام في المترو ويستعيدون قريباً شخصيتهم التي يعشق العالم ان يعتبرها «كريهة مثل أي نبيذ غير فرنسي»، أو أن يكتب صحافي رسالة إلى «داعش» الذي قتل «حب حياته» قائلاً انه لن ينتصر بأن يجعله هو او ابنه الذي فقد أمه من الكارهين. رغبتي في أن يتضامن العالم مع بيروت، لم تقلل من شعوري بأن ما حدث في باريس يعنيني. لا يهم أن أبكي باريس أو بيروت، المهم ان أستعيد القدرة على البكاء. القدرة على اي شيء آخر، غير الخوف. «لكي نكون شجعاناً، علينا أولاً ان نخاف» قال جان لوك ميلينشون خلال نقاش استضافته «فرانس2». نعم، ولكن لكي نكون شجعاناً نحتاج إلى المزيد. علينا ان نكون قادرين على الحلم من دون أن نشعر بالخجل أمام ما أوصلتنا اليه أحلامنا بمستقبل أفضل. علينا أن نكون قادرين على الخيال والحب والفرح والحزن. هذه كلها، لم يعد لها مكان هنا. الخوف وحده لا يكفي لأن نكون شجعاناً ولكنه كل ما بقي لنا هنا. هذا على الأقل ما شعرت به بعد أربع ساعات من المتابعة لأخبارنا. * صحافية ومراسلة لتلفزيون «العربية»