يقود اشتراط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على الشعب الفلسطيني الاعتراف ب «إسرائيل دولة يهودية»، قبل التحدث عن «دولتين لشعبين»، إلى الدخول في منطقة يحظر الدخول إليها. يدرك نتانياهو وحكومته هذا، كما أدرك زعماء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من قبله، فالتعبيرات المستفزة عن الموقف الإسرائيلي «الجديد» واشتراطاته القديمة – الجديدة، كما تصريحات ليبرمان الاقتصادوية في شأن التسوية العتيدة الموعودة، التي تعبر عن رفض إسرائيل خريطة الطريق ومقررات مؤتمر أنابوليس، هي الرسالة الأوضح والأفصح التي تحملها الحكومة الإسرائيلية ليس إلى الفلسطينيين والعرب، بل وإلى العالم أجمع، خصوصاً الإدارة الأميركية التي تحاول التمايز عن مواقف سابقتها، أو سابقاتها من الإدارات الأميركية المتعاقبة، إزاء الصراع في هذه المنطقة من العالم. وما كان للمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية إلا أن تقود إلى المأزق الراهن، ليس بالنظر إلى اختلاف المفاوضين الإسرائيليين على اختلاف مراحل المفاوضات منذ اتفاقيات أوسلو، بل بالنظر إلى أن الصراع على فلسطين هو صراع تناحري، يسعى كل طرف إلى تحقيق شروطه وشروط انتصار له، هو بمثابة الإنجاز التاريخي لمصلحته. لهذا ما كان للانسداد التفاوضي إلا إنتاج المزيد من الأفكار المتناقضة والمتعارضة أحياناً، حيث يجري الترويج هذه الأيام للكثير من أطروحات «الحل التاريخي» للقضية الفلسطينية، وفي السياق حل «المسألة اليهودية» التي لم تعد كذلك، منذ أن أعلنت الحركة الصهيونية قيام كيانها الاستيطاني العنصري فوق أرض الوطن الفلسطيني، بعد عمليات التطهير والتشريد الموسعة لأقسام واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، في عملية تحويل وإحلال للمسألة، من كونها نشأت يهودية في أوروبا، لتنتقل وتتحول من ثم إلى كونها «مسألة فلسطينية» بامتياز في فلسطين. وإثارة المسألة الآن تجاوزا لمنطوق كونها وطنية، إلى بداية التعاطي معها، كونها مسألة ديموغرافية، في نطاق الأرض ذاتها التي مثلت ولم تزل تمثل جغرافية الصراع فيها وعليها، بين أصحابها الأصليين، وأولئك الذين يعتاشون على مزاعم «أرض الأجداد» أو «أرض الميعاد». الأرض التي «اقتطعها» الإله (إلههم) التوراتي لهم، ولذريتهم من بعدهم، دون «الأغيار» الآخرين الذين سكنوها وسكنتهم منذ البدء، البدء الذي لا تاريخ مدوناً له، رغم أن التوراة كوثيقة تاريخية تعترف بوجود الكنعانيين في الأرض، حين بدأت ترحلات من يزعم أنهم «اليهود» إلى تلك الأرض، ليدخلوها وهي مسكونة بشعب آخر. تماماً كما حين أعلنت الحركة الصهيونية قيام «دولة إسرائيل» في عام 1948 على رغم وجود من تبقى من الشعب الذي ارتكبت بحقه مجازر التطهير والقتل والتشريد والطرد من الوطن. على رغم ذلك بقي الوجود البشري الفلسطيني شاهداً على ذلك الوجود الذي لم ينقطع يوماً، على الأقل منذ بدء التاريخ المدون، مروراً بمزاعم الهجرة من مصر والدخول عبر سيناء إلى فلسطين – أرض الكنعانيين – يومذاك. من الواضح في ضوء ما يطرح من حلول تستعصي على الحل، أن ليس هناك من «حل تاريخي» ممكن يتوافر في الأفق، ولا حتى في وعي من يطرحون مثل هذه الحلول، الموقتة الآن بطبيعتها، نظراً الى ميل موازين القوى لمصلحة المحتل وتحالفاته الدولية، ونظراً لغياب الإجماع على الخيارات الممكنة في رؤية قيادات الشعب المحتلة أرضه، ونظراً للانحيازات العربية والإقليمية والدولية المغيبة والغائبة عن إمكانية فرض رؤية لها، قادرة على بلورة حلول – تسووية -. وفي ظل فقدان الإجماع على رؤية موحدة لتسوية ممكنة في صفوف الطرف الإسرائيلي، كما في صفوف الطرف الفلسطيني. إن صراعاً ممتداً طويل الأمد، لا يمكن أن تحسمه تلك الحلول الجزئية أو الموقتة، مثل تبني «حل الدولتين» استجابة لموقف ورؤية أميركية – أوروبية لا يستطيع حتى أصحابها تنفيذها أو الدفع باتجاه تحقيقها. على أن إقامة دولة فلسطينية وفقاً لهذا الحل، من دون تحقيق حق عودة اللاجئين، وانسحاب الاحتلال من كل الضفة الغربية بما فيها القدس وجعلها عاصمة للدولة الفلسطينية، ليس حلاً ممكناً، بل لا يرقى إلى كونه الحل الممكن والمنشود. بينما اتضحت صورة المفاوضات حتى الآن أن الهدف الإسرائيلي منها يتركز على مسألة أو مسائل إنهاء قضية اللاجئين وتوطينهم حيث هم، بينما يكمن هدف التنازل عن المناطق المكتظة بالمواطنين الفلسطينيين ليس على أساس حق الطرف الآخر – الفلسطيني – بل ربما بهدف إعادة الوضع الفلسطيني إلى ما كان عليه قبل عام 1967، أي إعادة استتباع الضفة الغربية إلى الحكم الأردني، وعودة قطاع غزة إلى الحكم المصري. في وضع كهذا، لم يكن مفاجئاً لنا استحالة إنفاذ «رؤية» الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، ووعود أنابوليس، وانتظارات أن تتحقٌق نتائج محتملة من جولات التفاوض التي جرت مع حكومة إيهود أولمرت، من قبيل «اتفاقية مبادئ» أو «اتفاق إطار» أو «رف»، أو أي تسمية يتفق أو لا يتفق عليها. كل هذا في وقت بات يستحيل كذلك تنفيذ الرؤية القائلة ب «دولتين لشعبين» في ظل التوسع الاستيطاني وجدار الفصل العنصري وتلك المحاولات المحمومة لتهويد القدس، وذلك على حساب الدولة الفلسطينية المفترضة، لا سيما في عهد حكومة نتانياهو الأكثر يمينية وتطرفاً، على أن «الدولة ثنائية القومية»، وإذ لم تنضج ظروف التسليم بإقامتها بعد، فهي لا تلقى قبولاً أو تأييداً حتى بين المعتدلين في الجانب الإسرائيلي، فما زالت مسألة نظرية لم تتنزل إلى مستوى السياسة، على رغم التهديد بإطلاق شعارات تقترب منها، أو تدور حولها. وهذا تحديداً ما قاد كاتباً إسرائيلياً (غادي طؤوب/ يديعوت احرونوت 16/4/2009) ليقول أو يستنتج بأن «إسرائيل التي تواصل لشدة الغباء الاستيطان، تغرق أعمق فأعمق في وحل ثنائية القومية، فاليوم الذي لا نتمكن فيه من الانفصال إلى دولتين سيكون نهاية الصهيونية». على أن تحقِّق شروط إقامة «دولة ثنائية القومية» هو تماماً هدف إقامة «دولة كل مواطنيها»، ما يعني إسقاطا ل «يهودية الدولة» وبدء تفكيك وإنهاء المشروع الصهيوني، وهو الشرط الراهن الذي تعيه الآن حكومة الليكود الحالية عبر طرحها شرط اعتراف الفلسطينيين ب «إسرائيل دولة يهودية»، مع ما سيترتب على ذلك من محاولة إنفاذ واقع التبادل الديموغرافي، بالتخلص من العدد الأكبر من مواطني الجليل والمثلث والنقب. وعلى رغم أن أفراداً قليلين ينتمون إلى نخب الجانبين يؤمنون بذلك نظرياً أو على الورق حتى الآن. إلا أنه على الصعيد العملي، فإن الصراعات الخفية بين الأشكناز والسفارديم من اليهود الشرقيين والغربيين، لا تجعل ولا تحيل الكيان الإسرائيلي القائم اليوم في داخله ينتمي إلى قومية واحدة. هذه «القومية الموهومة» لم تستطع أن تبلور هويتها بعد، بل هي تتكشف عن مجموعة من انتماءات قبلية خبت نيرانها منذ زمن، بعد أن طفح كيل صراعاتها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وأخذت شكل صراع بين المتدينين والعلمانيين في المناطق المختلطة. وإذ يبدو حل الدولة الديموقراطية بعيد المنال، يتطلب الكثير من الإيمان والجهد والعمل وفق رؤية إستراتيجية من كلا الجانبين، وأفعالاً وممارسات مناقضة للرؤى العنصرية والانتحارية الاحتلالية والإحلالية على حد سواء، فإن هذا يعتمد على مدى تحقيق نضوج عملية دمقرطة واسعة، ليس فقط في صفوف الإسرائيليين وحدهم، بل وفي صفوف الشعب الفلسطيني كذلك. ولأن الديموقراطية توجب اقترانها بالعلمانية، فإن عنصرية التجمع الاستيطاني الصهيوني في بلادنا، ليست مؤهلة للإتيان، أو تبني حل ديموقراطي في دولة ديموقراطية لجميع مواطنيها، تضمن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين شردوا من ديارهم عام 1948، ذلك أن «إسرائيل الكبرى» كما حلم زعماء الصهيونية الأوائل وحاخاماتها، قد طويت وإلى الأبد، ومعها تنطوي اليوم صفحة إسرائيل التي لا تقهر ولا تهزم. إن غياب الزعامات الكاريزمية لدى الجانبين، سيفضي في النهاية إلى حلول وسط، قد لا تصمد على المدى المتوسط. أما الوصول إلى حل إستراتيجي بعيد المدى، فذلك دونه بروز «زعامة ديغولية» لدى الجانب الإسرائيلي، وزعامة وحدوية لا أحادية، وجبهة وطنية ائتلافية، تعيد للشعب الفلسطيني وطنيته الجامعة ووحدة إيمانه بأرض واحدة، تاريخية، يشهد لها التاريخ كما الجغرافيا، على أنها الأرض السياسية والسيادية لشعب يطور معنى وجوده، فوق تراب وطن يرفض إلا أن يكون فلسطينياً بهويته، الجامعة لمكونات هي عماد قيامته الديموقراطية العلمانية. ذلك هو الأمل الواعد، في مستقبل مهما بدا ويبدو بعيداً، فهو ينبغي أن يبقى واعداً. * كاتب فلسطيني