لن نستطيع أن ندرك الواقع، لأن الواقع منقوص، أو تم نقضه، وربما نصل إلى حد اللا واقع أو الوهم، وإذا أخذنا بهذا الوضع المعرفي، فإن ما يتشكل حولنا - بطبيعة الحال - هو شيء من الواقع واللا واقع. وبحسب تناولنا لهذين المفهومين، فإننا نحيل المسألة إلى التوصيف، أي كقولنا: نحن نعيش حياة واقعية، بالتالي وحسب نقض المفهوم ذاته، فإننا نقول: نحن نعيش حياة لا واقعية. هكذا هي مسألة البحث في هذا الجانب، معقدة وملتبسة مثل المفهوم نفسه، المفهوم الذي يُشْكل حتى على من يظن أنه يعيش في صميم «الواقع». لكن ولنقل أنه في مقدورنا إدراك الواقع الحقيقي، أو حقيقة الواقع، فما الذي يتوجب علينا حينها؟ سنجيب عن هذا السؤال بعدد من الأسئلة: أليس السؤال الجيد هو الذي يولد أسئلة عدة؟ والأسئلة هي كالآتي: هل يكفي أن نمتلك حساً سليما لندرك الواقع؟ في الحقيقة ليس هذا هو السؤال الجيد، إذاً ما هو الواقع؟ وكيف نستطيع أن نقبض عليه؟ وهل هو واقع حقاً؟ ثم هل هو واحد أم متعدد؟ وأخيراً وليس آخراً: ما هو الواقع الذي نعيشه؟ لا شك في أن لتشكل الواقع شروط نشأة، وسنتحدث عن ذلك ضمن سياقات ومقاربات معينة تعيننا على فهم المسألة. يتحدث جورج لوكاش في الفصل الأول من كتابه «دراسات في الواقعية» عن شوق الإنسان للانسجام مع الحياة، وأن هذا الشوق لم يتلاش مع الزمن، ويقول إنه كلما ازدادت الحياة قبحاً وفساداً في عالم الرأسمالية المتطورة تطوراً واسعاً ضيّق على الأفراد، زاد التعطش إلى «الجمال». إذاً فإن صفات الواقع بما أنه واقع غير وهمي أو مزيف أو منقاد للفكرة الرأسمالية والفلسفة التي تصبغ الأزمان الحديثة، هي صفات تحيل لاحتوائه - أي الواقع - إلى فكرة الانسجام من خلال منظومة من السلوك الإنساني الذي يشكل الواقع الأقرب للواقع الحقيقي، الذي يجد الإنسان فيه نفسه. فالواقع شبكة من الأفعال والأقوال والتصورات والرؤى، تقوم ببناء حالة ونمط معين للعيش ضمن سياقات محددة وواضحة، يستطيع الإنسان من خلالها تفسير الأحداث، التبصر بالوقائع التي تطرأ على حالة العيش والحياة، ويستطيع أيضاً أن يؤثر في هذا الواقع بصورة أو بأخرى تبعاً لفهمه له و فهم أدوات التأثير فيه. ومن نافلة القول أن هذه «الحالة» يجب أن تتشكل على أسس معتبرة، يفرضها الانسجام الإنساني مع محيطه، وإلا أصبح الواقع شيئاً متفلتاً ليس للإنسان سُلطة عليه، سواء على مستوى الفهم أم التأثير. نستخلص من ذلك أن العديد من شروط تشكل الواقع المؤدي للانسجام الإنساني، تقع تحت بند، الحرية، والوعي، والأخلاق، والفن، والانتماء الاجتماعي، والخير بشكل عام، وكل الصفات التي تمثل الجمال من نواح عدة، على المستوى الديني أو الفلسفي أو السياسي أو الاجتماعي والأخلاقي. يورد جورج لوكاش مقطعاً للفيلسوف الألماني هيجل، الذي يتحدث فيه عن أساس الانسجام في الحياة لدى اليونان بقوله: «إن اليونانيين، وفقاً لواقعهم المباشر عاشوا في الوسط السعيد بين الحرية الذاتية الواعية بذاتها، وبين الجوهر الأخلاقي». لذلك، إذا بحثنا في صورة الواقع الواقع، أي الواقع الراهن، وكيف يتصرف إنسان هذه المرحلة إزاء هذا الواقع الملتبس، حقيقة وإدراكاً وتفسيراً، يجب أن نعلم أن الواقع غير مكتمل وأنه في الحالة التي نصف بها «الواقع» فإننا نعتمد كثيراً على الخيال، فيتشكل الواقع منقوصاً كما ذكرنا، لا يحمل في ذاته مادته الواقعية الكاملة، ولكن هل الواقع شيء حقيقي؟ لذلك فأنا أعتقد أن هناك واقعين، الواقع المحض المجرد، وهذا في ظني لا يمكن إدراكه كاملاً، لكن من الممكن إدراك بعضه، إذا توافرت أسباب هذا الإدراك وأهم هذه الأسباب: معرفة الذات معرفة واعية، وهذا ما أفنى سقراط فيه حياته، وحرص على استخلاصه من صميم وعي من هم حوله، وخلاصة فلسفة سقراط تمثلت في العبارة الشهيرة التي يُقال أنه قرأها على جدار أحد المعابد - ولم تكن من قوله هو كما يظن الكثيرين - لكنه عُرف بها وهي: أعرف نفسك، إذاً فإن توصيف الواقع تجربة فردية ولو ظهر أن الواقع يضم كل المجتمع، وفي هذا الزمان - تحديداً - يبدو الواقع وكأنه يضم العالم كله في واقع واحد، يقول أوسكار وايلد: «المجتمع موجود كفكرة عقلية، ففي الواقع ليس هناك سوى الأفراد». أما الواقع الآخر فهو الواقع الوهمي الذي يتفاعل مع سلوك الإنسانية في الزمن الحالي، وهو عبارة عن تشكلات حسية مادية، تقوم في أساسها على مبدأ الفلسفة المادية التي توغلت في تجريد الحياة من الروح والروحاني والمعنى، حتى تحول الإنسان في نهاية المطاف إلى شيء، جراء انغماسه في الأشياء، في العمل، في الاستهلاك، في المتعة المادية، في الوقوف عند حدود الحسي السطحي، وهذا ما أججته وطورته الرأسمالية من حيث تحويل العالم إلى سلع وسوق كبيرة تتضخم مع مرور الأيام. وهنا تحول الواقع إلى مشهد سينمائي، أو أغنية سريعة، أو صورة أو تعليق مقتضب في موقع للتواصل الاجتماعي. وحينها يتلاشى الواقع ويصبح عدماً. أخيراً، فإن ضمان بقاء الواقع الواقع، يقوم على مقومات عدة تضمن بقاء العالم الحقيقي الذي يجب أن يقع، ويكون واقعاً. ذلك ما يكمن في عالم الماهيات والتصورات الفعلية لهذه الماهيات، كما أنه يكمن في الوعي بجوهر الأشياء، ورؤيتها على حقيقتها، وكل ذلك من أجل تشكيل مفاهيم حقيقية عن حياتنا، بعيدة تماماً عن المفاهيم والأخلاق والواقع الذي تفرضه علينا في هذا الزمن لغات البرمجة ومواقع التواصل الاجتماعي ومحرك البحث جوجل. يقول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه في ما ينسب له: «دواؤك فيك وما تشعر/ وداؤك منك فلا تبصر/ أتزعم أنك جرم صغير/ وفيك انطوى العالم الأكبر/ وأنت الكتاب المبين الذي/ بأحرفه يظهر المضمر». * كاتب سعودي.