الزمان والوقت والتاريخ وتفاصيل اللحظات التي تمر بنا من سنةٍ إلى ثانيةٍ هي كطرفة العين، كلها تعني مقدار وجودنا في الأرض والعمر الذي سنقضيه أحياءً فوق هذه البسيطة، ولا شيء نخشاه وننساه ونغليه ونرخصه ونبكيه ونفنيه في آنٍ واحد مثل الزمان، الذي تتملص ثوانيه بين يدي أثناء كتابتي تلك الكلمات المتناثرة، ويمر شريط الزمان أمامنا بسرعة مرور تلك الأجيال التي عاشت فيه، وكأنما نتصفح كتاباً للتاريخ الإنساني من دون أن نشعر بالقرون المختزلة التي نطويها أثناء تقليب صفحاته دون اكتراث. التأمل في الزمان يحمل يقظةً للنفس في العادة، ويحمل أسئلةً كبرى في الوجود والحياة. لا يجعلنا صمت الزمان ننظر ونفكر في تسارعه وتقلبه وانعكاساته على كل ما حولنا، وكلما أردنا بحث بعض ماهيته وتفكيك كينونته قابلنا الزمان بوجهه الغامض والمحيّر، على رغم عدم جهلنا تقنيات مروره بحياتنا واختراعاتنا الباذخة في حسابه ومعرفة أفلاكه وظواهره. وقديماً تجرأ القديس أوغسطين (354- 430م) ليعرف ماهية الزمان بقوله: «عندما لا يطرح المرء السؤال: (ما هو الزمان؟)، فإنه يعرف ما عساه أن يكون الزمان، ولكنه إذا طرح السؤال فإنه لا يعرف عن الزمان شيئا»!! (انظر: فلسفة العقل، صلاح إسماعيل، دار قباء الحديثة، القاهرة 2006، ص 65)، فالزمان هو ذلك المعلوم المجهول، وفي حقيقته تكمن حياتنا وتاريخنا الماضي والمستقبل، فهو الوجود الأهم والسؤال الأعظم، وبناءً على ما سبق، أحاول رسم بعض الرؤى حول هذا السؤال في النقاط التالية: أولاً: الزمان في فقهنا الشرعي له مدلولات عملية تتفق في ضرورة إشغال الزمان بالعمل الصالح واستغلال الحياة لزرع الآخرة، فتلاقت أدبيات الفقهاء وعلماء التصوف والسلوك على هذا المنحى، مع تأصيل الفقهاء أحكام الزمان المتعلقة بأداء العبادات بشكل قانوني منضبط ليشمل كل الحالات التي تمر بالمكلف في حياته المختلفة، بينما مفهوم الزمان فلسفياً هو كما قال أوغسطين ووافقه باسكال في استحالة إدراك كُنه الزمان مع حدسنا وشعورنا الكامل به، غير أن العلم الحديث، بخاصة في مجال الفيزياء، حاول قبول التحدي والتعرف إلى هذا اللغز، وربما يعتبر أبرز تحولاته الكبرى التي شهدها، في تحديد هذا المفهوم العصي المتفلت، فمعلوم أن الانتقال من فيزياء نيوتن إلى فيزياء آينشتاين مثلاً، هو انتقال وتحول في مفهوم الزمان، بتحويل دلالته من الإطلاقية إلى النسبية، وبدلاً من انفصال الزمان عن المكان أصبحا متصلين زمكانياً. وأعتقد أن نظريات الفيزياء المتعلقة بالزمان والمكان أحدثت ثورات عظيمة في تطور هذا العلم نظرياً، خصوصاً الفيزياء الكمية، ومدى علاقة الزمان والمكان بالمادة والطاقة والحدث، ويبقى ذلك اللغز العنيد لم يحل بعد، في معرفة طبيعة وجود الزمان وبدايته واتجاهه، وهل هو مستقيم أم لا؟ يتغير أم سرمدي؟ هل يمكن اختراقه وحصاره؟ وما علاقته بالضوء والمكان؟ ولا تزال تلك التساؤلات مفتوحة من دون جواب حتمي عليها. يقول هنري برغسون (1859-1941) إن «الزمن هو المعضلة الأساسية في الميتافيزيقا، وعندما تستطيع الإنسانية أن تقدم إجابة واضحة عن سؤال الزمن فإنها تستطيع تجاوز كل الإشكالات والمعضلات الوجودية التي تواجه حياة الإنسان والبشرية جمعاء». ويقول ريتشارد فينمان (1918- 1988) الحائز جائزة نوبل في هذا الصدد: «نتعامل نحن علماء الفيزياء مع الزمن يومياً، ولكن لا تسلني عن ماهيته، إنه أصعب مما نستطيع إدراكه» (انظر: مقال «في ميتافيزياء الزمن وماهيته» للدكتور علي وطفه http://www.civicegypt.org/?p=21947#-ftnref1). ما يهمنا هو الظاهر من الزمان والمتحقق من وقوعه والمدرك بالنسبة إلينا بشكل أولي، أما تفاصيل ذلك فهي الحيرة بعينها، وصدق الله تعالى: «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» (الإسراء: 85)، وللبعد النفسي والاجتماعي فلسفته المتعارف عليها للزمن والتي يتشارك فيها البشر عندما يشعرون بطول الوقت في انتظار الحبيب وسرعة انقضائه عند وجوده، ومع هذا التوافق الجمعي، لاحتياجنا إليه، فهو الكامن في وجودنا، ولا نزال في حيرة وعجب منه. ثانياً: أن الزمان في علاقته المعاصرة بالإنسان والعالم، يمر بمتغيرات مذهلة، يحسن أن نستعير تعبير ديفيد هارفي في توصيف عصرنا الحاضر بأنه «انضغاط الزمان بالمكان» (انظر: كتاب «العولمة والثقافة»، لمؤلفه د. جون توملينسون، نشر دار المعرفة 2008م ص3). وهذا التوصيف يشير إلى ملمحين رئيسين: التقارب والسرعة، فالعولمة جاءت بالتواصل الكبير الناعم اللامرئي، الذي تعبر فيه الأموال والبشر والصور والكتب والموضات والأفلام والبرامج والاتصالات إلى كف كل واحد منا وبلا عناء أو تعب، ورغماً عن أنف حدود العالم الإقليمية وهوياتها الوطنية، إنها سحر العالم الافتراضي المهيمن على العالم الحقيقي من دون أن نراه!! لم يعد في العالم اليوم أكثر إغراءً من التسابق المحموم في تسريع عجلة كل شيء، حتى الذي لا يقبل فيه عنصر العجلة لاعتبارات صحية أو اجتماعية بدا لنا صيرورة حتمية لا تقبل سوى الخضوع لهذا التسابق الزمني مع كل شيء، وقد فجع هذا التحول الفيلسوفة الإعلامية الكندية دنيز بومباردييه التي رأت أن المجتمع فرض علينا اختصار الوقت في كل شيء، فعمليات اليوم الواحد أضحت هي الغالب الممارس مع المرضى، ومراسم التشييع بدلاً من ثلاثة أيام –كما تقول- أصبحت في يوم واحد «فطقس العبور إلى العالم الآخر الذي يعطي لعائلة المتوفى الوقت كي تعتاد على فكرة فقدان شخص عزيز لم يعد له اعتبار.. إن قيمة كل شيء نمتلكه تقاس بالوقت الذي يتطلبه إنتاجه واستهلاكه واهتراؤه والتخلص منه» (انظر: كتاب «القيم إلى أين»، بإشراف جيروم بندي، دار النهار، الطبعة الأولى 2005، ص364). حتى المشاعر الإنسانية، كالحب، أصبحت ضحية مزاج الوقت المتسارع الذي ينهي كل علاقة من دون أن تتكامل مراحلها الطبيعية التي اعتادها الإنسان في ما مضى. ثالثاً: كانت الدولة القومية في الماضي تسيطر بشكل قوي ومهيمن على أي ثقافة تغزو البلاد، فتمنع الكتب وترفض عادات ظاهرية وتحارب سلوكيات مشينة، لأنها تمس هوية وتقاليده المجتمع، وفي سنوات قليلة، أي ضمن مراحل زمانية لم نستطع ملاحظتها لوقعها السريع، مرت تلك المرفوضات الصلبة وتغلغلت داخل المجتمع، بسبب سمائنا المشرعة بالقنوات الفضائية وتقنية الاتصالات والإنترنت، فتحولت الممانعة خضوعاً للواقع، ثم قبولاً مشروطاً لبعض ما فيه، ثم تنازلاً لاواعياً عن تلك الممانعات، ثم تماهياً ومحاكاة لتلك الثقافة الوافدة، ثم بناء ثقافة محلية جديدة تقوم على تلك المحاكاة. الغريب أن هذا السلوك الذي كان يتم عبر أجيال وفي زمن طويل ومناقشات جدلية و فكرية طويلة، أصبح مع تلك المعطيات العولمية يحدث في سنوات معدودة وخلال جيل واحد تماشى مع هذا التغيّر بسلاسة لا صدام فيها، كما يحصل في العادة بين الأجيال السابقة واللاحقة. فالموضة العالمية وعادات أبطال هوليوود وأساطير هاري بوتر ومنتجات أبل ووجبات ماكدونالدز وغيرها، أمثلة على صور هذا التحول السريع في العادات، بل في القناعات، وهو مؤشر قوي للتسارع العالمي نحو الكلية العولمية الزمكانية، شئنا أم أبينا. رابعاً: إذا كانت النظرية النسبية لآينشتاين دمجت بين الزمان والمكان (زمكان)، فإننا اليوم بدأنا نشعر بهذا التمازج العصري الفريد بينهما وبصور متعددة أيضاً، فالمكان الذي كان يعرف بأنه الموقع الذي يتواجد فيه الشخص أو غيره، بيتاً أو مزرعة أو مصنعاً أو شارعاً أو أي بقعة مكانية تحوي المتموضع فيه، أصبح مع زمان السرعة والاتصال الفضائي الشبكي والمعلوماتي، يظهر بشكل افتراضي وفي العالم الخيالي بصورة مختلفة، وبأنماط غريبة، فهو حقيقي الوجود من حيث التفاعل والحركة والجدّة ، وخيالي من خلال القدرة على القيام بصور التواصل الإنساني كافة مع الغير، من خلال هذا الموقع الذي تجسّد إلكترونيا بشكلٍ مذهل لم يسبق في إي عصر مضى، مع إمكان تحميل هذا الموقع الافتراضي بمعلومات لا يستطيع ملعبان للكرة أن يتحملاها ورقية، ولم يعد هذا الموقع الإلكتروني المعاصر خاضعاً للزمان ولا للمكان، بصورته النمطية المعروفة، بل أصبح صانعاً لنمطٍ جديدٍ من التلاقي والتحاكي والتواصي بين الناس، فبقدر ما يتحللون من واقعهم المادي يتجمعون ويتكاثرون في تلك المواقع الافتراضية على الشبكة العنكبوتية، ولأول مرة في التاريخ –وفق علمي- يتحول شتات الناس المختلفين في بلادهم وألوانهم ولغاتهم ودياناتهم، ويجتمعون مع كل صور الاختلاف بينهم في اتحادات وروابط ومواقع تواصل اجتماعي، شكّلت جيشاً من الوحدة والترابط ما كان ليتكوّن في كل حقب التاريخ، وفي أحداث كثيرة من العالم وخلال ساعات قليلة، ليعبّر عن موقف أو يندد حيال تصرف ما، لولا هذا الزمكان المنضغط بعضه ببعض، والمتحرك بسرعة وسلاسة في رحاب ال «فايسبوك» و «تويتر» و «سناب شات» وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي والانفصال الإنساني! أخيراً، يبقى الزمان في الوجود معملاً للنهوض الفردي والمجتمعي، وتحولاته المرعبة في عصرنا الحاضر، لا ينبغي التوجس والقلق منها، بل هي معطى حضاري أشبه بالحلم عند الأوائل، وكونه أصبح واقعاً يتجسد في تطور وسائل حفظه واستغلاله وتنمية أدواته في الإنجاز والعمران، يقتضي قوة الاهتمام وحسن التعاطي معه، والمفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973م) جعل من ركائز النهوض عامل الوقت (انظر: كتاب شروط النهضة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1987، ص 145- 146). لأن الوقت والزمان هما الثروة الحقيقية التي من ملكها من دون أن يُشغل عقله ومصيره بالتوافه والأزمات المصطنعة والحروب المفتعلة، فقد ملك زمام التقدم والعبور نحو مدارج العالم المتحضر، والتاريخ مليء بالشواهد، والفرص لا تزال متاحة والإرادة هي من يصنع النجاح.