مبدئياً، كان من المفترض أن يكون العرض العالمي الأول لفيلم مي المصري الجديد «3000 ليلة»، خلال الدورة الفائتة لمهرجان «كان» السينمائي، لكن هذا لم يحدث ليستعاض عن ذلك بعرضه في الدورة الأخيرة لمهرجان تورونتو الكندي، بادئاً بهذا جولته بين المهرجانات العالمية والعربية، حيث تتوجه مخرجته خلال الأيام المقبلة الى بوزان في كوريا الجنوبية، كمحطة تالية في عروض هذا العمل الذي هو الروائي الطويل الأول لصاحبة «جبل النار» و «أطفال شاتيلا» وغيرهما من أعمال سينمائية وثائقية صارت علامات في السينما الفلسطينية والعربية. مي المصري التي رافقت عرض الفيلم في تورونتو عادت سعيدة بردود الفعل النقدية والجماهيرية والاستقبال الذي كان للفيلم، علماً أن تلك العروض الكندية كانت الأولى التي يشاهدها أي شخص من خارج المعنيين بالفيلم وبعض الأصدقاء، ما جعلها تبدو واثقة بأنها ربما تكون قد كسبت رهانها. وهذا على أية حال كان شعورنا حين شاهدنا الفيلم في عرض خاص في بيروت. بين الوثائقي والروائي عندما تناول النقاد عدداً من أفلام مي المصري الوثائقية، التي حققتها خلال مراحلها السابقة، وتميزت بها عن عدد كبير من أفلام السينما الفلسطينية، كان حكمهم أن المصري تتعامل مع سينماها الوثائقية، وكأنها سينما روائية، إنما من دون ممثلين محترفين. صحيح أنها في أفلام مثل «أطفال جبل النار» و «أطفال شاتيلا»، صورت في مكان «الحدث» نفسه، وكانت شخصيات أفلامها من «أصحاب الحدث»، وأن كاميراها تفاعلت مع ما تصوّره، كأنه ما يمكن أياً كان أن يراه في تلك اللحظة بالذات، واستقت الحوارات مما هو متداوَل بالفعل معبراً عن الواقع المعيوش من دون تدخل كبير، ومن دون سيناريو مرسوم سلفاً، بحيث يبدو كأن المشهد هو الذي يقود الكاميرا. كل هذا صحيح هنا، كما يصحّ على الغالبية العظمى من الشرائط الوثائقية، غير أنه كان دائماً ثمة شيء ما، يقول أن هذه المخرجة المبدعة لم تكتف بتصوير «عفوية» ما يحدث أمام كاميراها، بل اختارت لحظات تدخلت فيها، وحركت الكاميرا في علاقتها بالأشخاص المصوَّرين – الأطفال بخاصة -، كأن هؤلاء يعرفون منذ البداية أن ثمة كاميرا تصوّر وعليهم بالتالي أن يتصرفوا ويتكلموا أمامها في شكل يختلف بعض الشيء عما هو حادث في الحياة الحقيقية، لكن من دون أية إضافات الى تلك الحياة تبعدها من واقعها. لم تستعن مي المصري في تلك الأفلام بممثلين، لكنها حولت الناس العاديين الى ما يشبه الممثلين، يلعبون أدوارهم الحقيقية في الحياة الحقيقية. ويومها نجحت مي المصري في مشروعها الى درجة بات متوقعاً معها أنها لاحقاً، حين ستقدم على تحقيق أفلام روائية، لا شك في أنها ستجد أمامها جمهرة من «ممثلين» واقعيين تدربوا على يديها وفي أفلامها، تدربوا على حكاياتهم، وحواراتهم وفي أماكن عيشهم وتحركهم، لكن هذا لم يتحقق، للأسف، وسنتساءل «لماذا؟» بعد قليل. الداخل والخارج هنا، في انتظار ذلك، نعود الى أسلوب مي المصري نفسه. فلئن كان النقاد قد تحدثوا عن أفلامها الوثائقية حديثهم عن أفلام السينما الروائية، لا ريب في أنهم اليوم، حيث يشاهدون عملها الجديد، أي فيلمها الروائي «3000 ليلة»، سيعكسون آية الحكم تماماً: فهم إذ يكتشفون للمرة الأول صنعة مي المصري في الإبداع السينمائي في عمل روائي هو الأول لها في تاريخ سينمائي طويل، سيلاحظون أنها تتعامل هنا مع السينما الروائية تعاملها مع السينما الوثائقية، بدءاً من استخدامها، غالباً، ممثلين غير محترفين، وصولاً الى امّحاء الكاميرا التي تحركها بحذق وإتقان، أمام ما يحدث أمامها في تقشف مدهش يستغني عن كل ما هو متاح هنا من إمكانية الاشتغال على حركية الديكور وتحرك الممثلين وتتابع الأحداث. فالأسلوب الذي اتبعته المصري هنا، والمنتمي بوضوح الى أسلوبها في إنتاج الفيلم الوثائقي، يشي بأن المخرجة أرادت أن تترك الأحداث تصنع نفسها بنفسها والحوارات تتوالى كما لو كانت ارتجالاً... بحيث يبدو الأمر وكأن الفيلم كله حقق من دون سيناريو مرسوم سلفاً. ومع هذا كان للفيلم سيناريو، وسيناريو كتب طوال سنوات وإن انطلاقاً من مجموعة من الحكايات الجانبية الواقعية التي تدور من حول حكاية مركزية تؤكد المصري أنها حدثت فعلاً، وأكثر من مرة ومرات، نعني بها حكاية تلك المدرّسة الفلسطينية الشابة والحسناء، ليال، التي يقبض عليها الجيش الإسرائيلي «متلبسة» بجرم نقل فتى فلسطيني اشتُبه بأنه «إرهابي» في سيارتها، فيما كانت متوجهة ذات صباح الى عملها وهي العروس المتزوجة حديثاً. ولأن ليال لم ترد أن تنقذ نفسها بالقول أن الشاب إنما أجبرها على نقله، تجد نفسها في المعتقل الى جانب مجموعات من السجينات الفلسطينيات والإسرائيليات، وتحت رقابة مجموعة من السجّانات اللواتي سيتبيّن أنهن أشد قسوة من السجانين الرجال. الى هنا تكاد الحكاية تكون عادية تعيشها ألوف الفلسطينيات، لكن حال ليال تتفاقم وتتخذ فرادتها، حين يتبين لها في السجن أنها حامل في شهورها الأولى. غير أن حملها لا يشفع لها لدى السلطات الإسرائيلية، ولا حتى لدى معظم السجينات الإسرائيليات (وهنّ هنا سجينات حق عام، أي مجرمات وسارقات وبنات دور دعارة وما شابه) اللواتي تمتلئ نفوسهن حقداً على كل ما هو فلسطيني، فيكنّ داخل المعتقل أشد قسوة حتى من السجّانات. وليال - التي ستمضي في المعتقل شهور حملها الصعبة، وبعد ذلك حين تنجب طفلها نور ستحتفظ به طوال سنتين يسمح بهما القانون - ستجد تعاطفاً بالطبع من لدن رفيقاتها في السجن من الفلسطينيات، لكن حتى بين هاته السجينات، ستجابه ليال بالظنون والقسوة، ما يجعلها تعيش وسط أكثر من جحيم. هذا كله، من دون أن تلقى من «العالم الخارجي» أي دعم باستثناء دعم أمها لها، وباستثناء، دعم محاميتها اليهودية التي نراها في الفيلم منصفة مناضلة عادلة، ما يكسر صورة الأسود والأبيض ويعطي الشريط موضوعية وتوازناً يحتاجهما. ولنذكر هنا أن ليال لا تلقى وهي في جحيمها، ولا حتى دعم زوجها الذي سيتخلى عنها تماماً، مقابل ممرض فلسطيني معتقل شاب يقبع، في سجن الرجال المجاور، ويستعان به لشؤون المستوصف ما يتيح له أن يتعرف بها ويشعرها بشيء من حنان تفتقده. إذاً، كل «أحداث» الفيلم تدور على هذا الصعيد طوال أكثر من مئة دقيقة، تشعرك فيها كاميرا مي مصري بالانسداد التام لأي أمل ولأي حياة. إننا دائماً هنا في مكان مغلق، لا تغزوه فسحة من الشمس أو الضوء إلا لدقائق معدودة بين الحين والآخر، وغالباً بالاستعانة بنافذة تقف عليها طيور تعد بشيء من وعد الحرية، أو بالاستعانة بفناء السجن المجاور لفناء سجن الرجال... لكن عدا عن هذه الدقائق التي في إمكانها، بين الحين والآخر، أن تشي بشيء من التفاؤل وحب الحياة، تمضي ثلاث سنوات من حياة السجن، تتابعها كاميرا مي المصري وكأنها كاميرا وثائقية تتابع حياة حقيقية في سجن حقيقي، يساعد على ذلك ديكور مميز أقيم على أنقاض سجن عسكري أردني وقديم وغير مستعمل، أعطى تلك الانغلاقية المكانية التي هيمنت على الفيلم ككل. مرور الزمن لكن في مقابل الإحساس القوي بالمكان، الذي عرفت مي المصري ومهندس الديكور حسين بيضون والمصور جيل بورت، فرضه على الفيلم ونقله الى المشاهد، لم يكن الإحساس بمرور الزمن على المستوى نفسه من القوة، بحيث يصعب على المشاهد أن يدرك أن ما يقرب من ثلاث سنوات قد مرّت منذ دخول ليال السجن، وحتى افتراقها عن طفلها فيه، وقد أضحى في الثانية من عمره. ومن الواضح هنا أن هذا يعود الى خلل في السيناريو، حاول الإخراج التعويض عليه، إنما من دون قدرة كبيرة على الإقناع. بالنسبة الى مي المصري، حتى وإن كان في مقدورها أن تدافع عن السيناريو الذي كتبته بنفسها، في هذا الصدد، تقول أن وضعية السجن نفسها تلغي أي إحساس بالزمن. حيث أن هذا الأخير، لا يعود في السجن واقعاً موضوعياً، بل بُعداً ذاتياً، حيث أن السجين (السجينة هنا) سرعان ما يتوقف عن عدّ الأيام ما أن تمر به الشهور الأولى من دون أن يكون قادراً على توقع اليوم الذي سيبارح فيه هذا المكان، فتضحي علاقته بالمكان أكبر وأكثر وضوحاً من علاقته بالزمان. وتلفت مي المصري، في دردشة بعد العرض الخاص الأول للفيلم، مع كاتب هذه السطور، الى أن هناك، على أية حال، «لحظات كثيرة في الفيلم عبرت بقوة عن مرور الزمن، من دون أن ننسى التطور العمري للطفل نور نفسه، ناهيك بالتطور النفسي لليال». ثم، تضيف مي المصري: «أود أن أذكر هنا أن معظم الفتيات والسيدات اللواتي قمن بالأدوار في الفيلم، هن إما من صاحبات التجارب الواقعية في المعتقلات الإسرائيلية، وإما من اللواتي كان ثمة معتقلون ومعتقلات بين أقاربهن ومعارفهن»، وتؤكد المصري أن هذا كان متعمداً، وليس فقط بالنسبة الى من قمن بأدوار السجينات الفلسطينيات، بل كذلك بالنسبة الى السيدات والفتيات اللواتي قمن بأدوار الإسرائيليات، سجينات كنّ أو سجّانات». ومن اللافت هنا، أن كل شخصية في الفيلم تنطق باللغة التي يفترض أنها لغتها الأم... واللواتي قمن بأدوار الإسرائيليات نطقن بالعبرية التي يجدنها، ومعظمهن من فلسطينيات 1948، وتؤكد المصري أن «لكل واحدة منهن حكاية مع الاعتقال سهلت عليها الاندماج في الفيلم». هل معنى هذا أنك تركت لهن مجالاً كبيراً للارتجال؟ - «ربما، في الحوارات على الأقل، وربما في مجال التعبير الجسدي أيضاً. ولقد أدهشني أنهن جميعاً وُفِّقن في أداء ما هو مطلوب منهن، وفق تصوري المسبق، مع أن الممثلات المحترفات بينهن قليلات... ولعل هذا يشكل جواباً عن سؤالك الأول المتعلق بحلمي القديم بأن أجمع ذات يوم عدداً كبيراً من «الصغار» الذين صورتهم في أفلامي القديمة، في عمل روائي... بصراحة، ما إن دخلت عملياً في تحقيق «3000 ليلة» حتى وضعت هذا الحلم جانباً، لأسباب عدة، ربما يكون في مقدمها أنني وجدت أن من الأنسب استخدام سيدات مررن فعلاً بتجارب حقيقية وأليمة في مجابهة الإسرائيليين، بخاصة المعتقلات الإسرائيلية». من بين الأسابيع العديدة التي استغرقها تصوير الفيلم في ذلك الديكور الكئيب المبني في الزرقاء، على بعد أربعين كيلومتراً من مدينة عمان الأردنية، كانت الأيام الأصعب هي تلك التي جرى خلالها تصوير هجوم الجنود على السجن والمعركة ضد السجينات، حين يقمن بإضراب عن الطعام طلباً لتحسّن بعض أحوالهنّ: «لقد عشنا، تقول مي المصري، أجواء معركة حقيقية ذكّرت الكثير من «الممثلات» بأحداث عشنها حقاً وبقمع كثيراً ما تعرضن له. أما بقية المشاهد فقد كانت صعوبتها صعوبة سيكولوجية، إذ، وكما قلت لك، إذا استثنينا الممثلات المحترفات مثل نادرة عمران (سناء)، وميساء عبدالهادي (ليال)، وأناهيد فياض (ريهان)، فإن معظم الباقيات كنّ آتيات مباشرة من الحياة الفلسطينية القاسية التي يشكّل المعتقل والقمع، جزءاً أساسياً منها. وبالتالي، كان كل مشهد وكل عبارة، وكل علاقة، أمراً ينقلهن مباشرة من أمام الكاميرا الى الحياة الحقيقية، ومن الابتسام في خضم العمل الفني وعائليّته الى الدموع في خضم الذكريات. وفي اعتقادي، أن هذا قد خلق لديّ واحدة من أصعب التجارب التي مرّت بي في حياتي».