«لم تعد حالنا الى ما كانت عليه... العالم كله مجند لحصارنا، بدءاً من القرار 1701 الذي، وبدلاً من أن يحد من تدفق السلاح الى حزب الله، أفضى الى حصار محكم على سكك تهريبنا المخدرات عبر البحر، ومروراً بثورة المعلومات التي مكنت الجيش اللبناني، أثناء ملاحقته الفارين من آل جعفر، من استعمال «غوغل إيرث» في تعقبهم وتحديد أماكنهم، ووصولاً الى تسليط الصحافة الأضواء علينا بصفتنا خارجين دائماً على القانون». هذا ما قاله رجل من آل جعفر في حي الشراونة في مدينة بعلبك شرق لبنان، ذلك الحي الذي شهد مطاردات قام بها الجيش اللبناني لمطلوبين من عشيرة جعفر اقدموا على قتل 4 عناصر من الجيش قبل نحو أسبوعين. لكن البقاع الشرقي يبدو لزائره في موسم الانتخابات النيابية ملون بوقائع مختلفة لا تفضي كلها الى ما أفضت اليه شكوى شبان من آل جعفر في حي الشراونة. فهنا تتجاور دعة السكان وخفتهم مع وقائع ثقيلة من نوع قتل عناصر الجيش، أو تحول المنطقة الى مقصد لفاقدي سياراتهم في بيروت حيث يصلون الى المدينة ويستضيفهم أصدقاء يساعدونهم على استعادة سياراتهم بأساليب وأكلاف متفاوتة. ليس هذا وجه بعلبك الوحيد، يجهد الأصدقاء الكثر في بعلبك لتأكيد هذا، وهم محقون فعلاً بذلك. لكن يبدو انه من الصعب مقاومة السمعة التي لحقت بهذه المنطقة. ثم ان هؤلاء وأثناء مقاومتهم حكايات الخروج على القانون يستعملون الوقائع نفسها، فيقدمون روايتهم لها في قالب من الخفة لا ينفيها إنما يخفف من وطأتها ومن معانيها. فأنت في بيروت عندما تسمع بأعداد المطلوبين بمذكرات قضائية من أبناء بعلبك - الهرمل يتراءى لك هؤلاء بوصفهم عصابات وأشراراً ومفسدين، ولكنك لن تشعر بذلك عندما تسمع حكاياتهم في بعلبك، من دون ان يعني ذلك انك ستنحاز اليهم، ومن دون ان يعني أيضاً ان هؤلاء أثناء تقديمهم رواياتهم إنما يسعون الى نيل براءة. يقول م. جعفر: «في البقاع 37 ألف مطلوب بمذكرة جلب قضائية، وخلال الحملة الأخيرة التي قام بها الجيش اللبناني في أعقاب مقتل 4 من عناصره، تمكن من توقيف 200 مطلوب، اذاً بقي عندنا 36800 مطلوب». ويضيف: « كثيرون من هؤلاء المطلوبين لا تتعدى تهمهم غراماً او غرامين كوكايين... وهم ليسوا تجاراً ولا مروجين في حالات كثيرة، إذ ان هناك مئات الحالات التي تورط أصحابها بالترويج من دون ان يكونوا مروجين. فالكوكايين مثلاً نحن لا نزرعه ولكن يرسله الينا تجار من الخارج بهدف ترويجه. ومعظم المروجين مطلوبون الى القضاء ولا يتمكنون من الذهاب الى بيروت، ولكن يتصل بهم مستهلكون من العاصمة ويطلبون حاجتهم فيقوم هؤلاء بإرسال المطلوب عبر سائقي سيارات عمومية من أبناء المنطقة يغرونهم بخمسين دولاراً، وما ان يصل هؤلاء الى بيروت حتى يكتشفوا ان الطلب لم يكن اكثر من كمين للقوى الأمنية، فيمضي هؤلاء اشهراً في السجن ويدفعون غرامات مالية ويخرجون عاجزين عن استصدار سجل عدلي يمكنهم من العمل أو التوظف، ويتحولون الى عاطلين من العمل، ولاحقاً الى خارجين عن القانون... إنها دورة حياتنا». يقول م. جعفر ان إقدام أقاربه على قتل عناصر من الجيش اللبناني لم يكن إلا رد فعل على قتل الجيش شقيقهم ورجلاً آخر من آل جعفر في كمين كان من الممكن فيه تفادي قتلهم. ويؤكد ان الدورية التي استهدفها أشقاء القتيل هي نفسها التي نفذت الكمين قبل نحو شهر. ويشير الى ان «ابناء العشيرة كانوا ينوون مقاطعة الانتخابات النيابية احتجاجاً على تلكؤ كل من حركة «أمل» و«حزب الله» عن احتضانهم في أعقاب مقتل الرجلين، ولكن بعد إقدام أشقاء القتيل برد فعلهم تولى حزب الله تبريد الأجواء مع الجيش اللبناني، ما جعلنا نعدل عن مقاطعة الانتخابات». حزب الله في بعلبك – الهرمل هو الدولة البديلة على رغم عدم إتمامه مهمة الدولة هناك. إذ يجمع أبناء المنطقة ان هناك اكثر من ثلاثين ألف متفرغ من أبناء المنطقة في أسلاكه العسكرية والأمنية والاجتماعية والتربوية. لكن البقاع الشرقي وعلى رغم آلة الحزب الهائلة، وعلى رغم رسوخه في قناعات السكان وفي وجداناتهم، ليس منطقة يمكن للحزب ان يأمن لوقائعها. فخلافاً للجنوب اللبناني الذي استقر فيه الحزب من دون منافس، يبقى البقاع في حاجة دائمة ومتواصلة للتطويع. ثمة عشائر تشكل وحدات سياسية واجتماعية مستقلة عن الحزب، وعلى هذا الأخير ان يواصل العمل لتطويعها، وإلا عادت وانبعثت على نحو لا يناسب تطلعه. وفي البقاع الشرقي ايضاً نحو 70 ألف ناخب غير شيعي يشكلون اندفاعة أولية لأي لائحة تطمح لمنافسة لائحة «حزب الله». وهناك أيضاً معضلة ثالثة تحتاج دائماً الى المعالجة من قبل كل من «أمل» والحزب وتتمثل في ان زعامة الشيعة في لبنان عقدت لقيادات من الجنوب اللبناني مما ترك مشاعر إحباط بقاعية أكيدة لكنها مضمرة حتى الآن ولا تقوى على منافسة الحضور الكبير للحزب ومؤسساته المختلفة. زائر البقاع الشرقي في موسم الانتخابات هذا لن يشعر باحتدام الموقف في ظل اقتراب موعد الاقتراع. لا صور لمتنافسين ولا جولات يجريها المرشحون، والمنطقة مستسلمة لقدرها الذي اسمه في هذه الأيام «حزب الله». ويبدو ان هذا الأخير صار يجيد اللعب مع السكان سواء كانوا من أبناء العشائر أو من أبناء العائلات، فهو في الوقت الذي أهمل فيه العشائر كوحدات اجتماعية وسياسية، عاد وأنشأ صلات معها من مداخل أخرى، منها تقديم خدمات الرعاية الأمنية والاجتماعية والمالية، ومنها ايضاً رسم حدود للقوى الأمنية لا يمكن تجاوزها سواء أثناء تصادمها مع مجموعات من أبناء العشائر، أو أثناء سعيها إلى بناء مواقع نفوذ لها في أوساطهم. وإذا كانت لائحة «حزب الله» الانتخابية في بعلبك - الهرمل لا تضم وجوهاً من العشائر، وهو ما أثار حفيظة كثيرين هنا في البقاع الشرقي، إلا أن التذمر العشائري لم يرق الى مستوى الاحتجاج اقتراعاً أو ترشحاً. فيقول ياسين جعفر، وهو نجل أحد زعماء آل جعفر: «التقينا نحن مجموعة من الوجوه العشائرية في البقاع الشرقي وأبلغنا الحزب احتجاجنا على عدم تمثيل العشائر في لائحته الانتخابية». لكن «حزب الله» يملك مفاتيح العلاقة مع هذه العشائر، فالسمة الأبرز للواقع العشائري البقاعي هذه الأيام هو التردي الاقتصادي وحال الفقر والبطالة التي تسود أوساط السكان في تلك المنطقة، وانعدام المشاريع الإنمائية على مدى نحو عقدين من الزمن هما الوقت الذي تم خلاله وقف زراعة الحشيشة التي كانت مصدر أرزاق الناس هناك. وإذا كانت هذه الزراعة استعادت بعضاً من نشاطها في السنوات الثلاث الأخيرة بفعل انهيار الدولة في لبنان، فإن مشاكل من نوع آخر واجهت المزارعين وحالت دون عودتها مجدداً عماداً للاقتصاد البقاعي. ولعل التسويق هو أهم العوائق في وجه عودة هذه الزراعة، إذ أن السوق اللبنانية لم تكن يوماً مركز طموحات المزارعين والتجار، في حين أدى توقف الزراعة سنوات طويلة الى تعطيل «السكك الخارجية» للتهريب، واليوم يواجه المهربون أساليب ضبط ومراقبة للحدود لم تتح لهم محاولاتهم المستجدة التغلب عليها بعد، الى ان وصل الأمر الى حال من الكساد يمكن لزائر البقاع ان يتلمسه من خلال توفر المادة في أيدي كثيرين في البقاع الشرقي على نحو غير مسبوق. فبحسب أحد المزارعين: « لا قيمة للحشيشة في البقاع، انما قيمتها الوحيدة عندما ننجح في وضعها على السكك... الحشيشة هنا كالتبن يمكنك ان تغرف منها كما تغرف العلف للبهائم، لكنها في أيدي التجار ذهباً». لكن من يقصد «ديرات» مزارعي الحشيشة في البقاع يلمس تبدلاً طفيفاً في أحوالها يُمكنه من استنتاج بعض التقدم في أوضاعهم. فتلك المنازل التي بنيت في أيام ازدهار الزراعة قبل تسعينات القرن الفائت، والتي حولها منع الزراعة الى خرب وجدران متآكلة وفارغة، استعادت بعضاً من حياتها. تمكن السكان في السنوات الفائتة من تجديد بعض اثاثات منازلهم، وآخرون استعادوا أمجاد سيارات ال «فورويل درايف» المركونة أمام منازلهم. انها ملاحظات عامة لكنها لا تخلو من دقة. صحيح ان الموسم لم يُصرف كله، لكن يبدو انه يتسرب على نحو بطيء من مخازنه. وعند سؤال المزارعين عن سكك جديدة يُطلقون شكاويهم، ولكنهم يشيرون الى احتمالات جديدة. بعضهم يشير الى العراق بصفته «سكة جديدة» ومنه ربما الى ايران التي تشكل سوق استهلاك كبيرة. ويأتي هذا في ظل صعوبات كبيرة في التهريب عبر البحر، خصوصاً بعد صدور القرار 1701، والذي أفضى الى تولي قوات دولية مراقبة البحر لمنع تهريب السلاح الى «حزب الله». أما ما يُقال عن تهريب الى إسرائيل عبر إلقاء الحقائب من فوق السياج الحدودي فمن الصعب في البقاع التحقق من صحته، لكن الأكيد ان مهمة من هذا النوع تتداخل فيها الدوافع والوظائف على نحو يجعلها صعبة التنفيذ من قبل مهربين عاديين. وفجأة وفي ظل الوتائر المتفاوتة لأوضاع المزارعين والعشائر، تستيقظ عصابات سرقة السيارات، وتبدأ المحطات التلفزيونية ببث أفلام وتحقيقات عن المهربين، والحدث الاستثنائي الوحيد كان تصدع نفوذ الدولة والأجهزة الأمنية في تلك المنطقة بفعل الأزمة السياسية والطائفية في لبنان. «حزب الله» يعجز عن ان يكون سلطة كاملة، فهو في المحصلة طرف أهلي وطموحاته في كسب أبناء العشائر تعيق رغبته، اذا ما كان لديه رغبة، في ضبط الأوضاع، اما الدولة اللبنانية وأجهزتها فضعيفة ومتنازعة الى حد لا يتيح لها التدخل. ولعل الحادث الذي تعرض له الجيش اللبناني مؤخراً هو أحد صور المأزق البقاعي. تمكن «حزب الله» من إخضاع العشائر، وخريطة الترشح الى الانتخابات النيابية المقبلة تؤكد ذلك، إذ ان وجهاً عشائرياً واحداً لم يتمكن حتى الآن من الترشح في وجه لائحة الحزب. والحزب استعمل في إخضاع العشائر له مختلف الوسائل سواء المالية والخدمية والضغوط الأمنية واحتكار العلاقة مع الدولة وأجهزتها. وثمة عامل آخر ساعد الحزب في مساعيه ويتمثل في دور الحدود اللبنانية - السورية، اذ لطالما شكلت هذه الحدود رافد تهريب لأبناء العشائر ما مكن السلطات السورية من إنشاء نفوذ لها عوض الحضور الأمني المباشر بعد الانسحاب السوري من لبنان، ويبدو ان الأجهزة السورية جيرت هذا الدفع لمصلحة «حزب الله»، ما مكن هذا الأخير من إتمام سيطرته على العشائر. لا شك في أن من يطمح لمراقبة الواقع الانتخابي في البقاع الشرقي سيختلط في المشهد أمامه عناصر الفقر المدقع مع واقع زراعة الحشيشة وصعوبات تصريف منتوجها، مع نفوذ «حزب الله» والموقع الذي حدده الحزب لهذه المنطقة في خريطة وظائفه المختلفة. ولكن المراقب سيحار أيضاً من انكفاء خصوم الحزب ومن عدم رغبة أي طرف في مقاومة الأمر الواقع هناك. فمقومات هذه المقاومة متوافرة في حال توافر الرغبة في ذلك، سواء عبر التركيبة الطائفية ام عبر الواقع العشائري الذي تجاوزه «حزب الله». المسافة من حي الشراونة في مدينة بعلبك حيث تقيم عائلات من آل جعفر الى الدار الواسعة غربي المدينة حيث القرية التي تعتبر مصيفاً للعشيرة نفسها تبلغ نحو 15 كيلومتراً. وما أن داهم الجيش اللبناني حي الشراونة، في أعقاب مقتل عناصره، حتى غادر شبان من آل جعفر منازلهم في الدار الواسعة متوقعين ان تعقب مداهمة منازلهم في المدينة مداهمة في القرية. ويقول أبناء القرى المجاورة للدار الواسعة ان «الطفار» من آل جعفر ومن غيرهم من العائلات والعشائر لجأوا الى الجرود البعيدة. الجيش اللبناني شديد الحذر في تعقبهم، و«حزب الله» يرعى وساطات، اما المتهمين مباشرة بقتل عناصر الجيش فلن يعودوا في المدى المنظور إذ أن المشانق تنتظرهم. الناظر الى المساحات الخضراء التي تخبئ هذه الوقائع يشعر بدعة الطبيعة وخمولها في سهول الحشيشة في البقاع الشرقي. انها مناطق السفوح الشرقية لسلسلة جبال لبنان الغربية، حيث تذوب الثلوج عن القمم مغذية السفوح والوديان ومشكلة مستنقعات وأراضي خصبة لكنها جرداء. يتحدث م. جعفر عن الأيام الخوالي التي «كانت منطقة البقاع من أغنى مناطق لبنان وأكثرها أمناً» ويضيف متحسراً: «من قال اننا سنتحول الى سارقي سيارات، نحن الذين كنا عماد الاقتصاد في لبنان... فليشرّعوا الزراعة لنثبت لهم أهمية منطقتنا».