هل بحث آرثر كوستلر عما يشعل ناره أو يطفئها؟ أمضى حياته يدور بين القضايا، مصيباً ومتعثراً، ولئن جذبته الصهيونية مطلع شبابه بقي حائراً بين حقوق الفلسطينيين واليهود. في «كوستلر: المفكر الذي لا غنى عنه» الصادر في بريطانيا عن دار فابر، يتابع مايكل سكامل حياة كوستلر الواسعة، ويقول إنه انضم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الى بعثة لبناء مستوطنة يهودية في فلسطين في الوقت الذي حاول إقناع مناحيم بيغن، عضو منظمة إرغون، بالتخلي عن الهجوم المسلح على جيش الانتداب البريطاني والقبول بدولتين فلسطينية وإسرائيلية في فلسطين. ولد في هنغاريا لأبوين يهوديين من روسيا وتشيكيا، وأهمل دراسة الهندسة في السنة الأخيرة ليذهب الى فلسطين. رفض طلبه الانضمام الى كيبوتز، فمارس أعمالاً يدوية ونشر كتيبين عن الجنس الى أن عُرض عليه العمل مراسلاً علمياً لصحيفة ألمانية. نقل افتتانه بالصهيونية الى العلم الذي آمن بأنه سيحسّن البشرية ويجعلها قادرة على التزود بطاقة هائلة من «خزانات كونية ضخمة». دفعته لا سامية النازية الى الانضمام الى الحزب الشيوعي الألماني، وصدّق نفسه حين قال انه متشوق للتشمير عن ساعديه والعمل في مصنع. انحسرت حماسته البروليتارية الميدانية لمصلحة ذلك النظري، فقصد الاتحاد السوفياتي حيث كتب يهمة ونشاط عن نجاحه الصناعي، وأنكر المجاعة في أوكرانيا. سجن بتهمة التجسس للشيوعيين خلال تغطية الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، وسمع من زنزانته المنفردة الخطى الأخيرة للرجال المساقين الى موتهم. ترك الحزب الشيوعي وقصد فرنسا حيث احتجز في معسكر اعتقال، وتحدث عن تجربته في «ظلمة الظهيرة» التي تناولت حملات التطهير والمحاكم الصورية في عهد جوزف ستالين. يُقصى بطلها روباشوف ثم يُسجن بتهمة خيانة النظام الذي ساعد على إنشائه. كان أحد زعماء الثورة البولشفية وعزز الأحزاب الشيوعية في الخارج، لكنه أُوقظ ذات ليلة واقتيد الى التحقيق وعُذّب. كلف صديقه القديم إيفانوف استنطاقه ومحاولة إقناعه بالتوقيع على اعترافات مفبركة، وأدرك روباشوف انه استخدم الأساليب نفسها مع رفاق سابقين بمن فيهم أرلوفا، سكرتيرته وعشيقته. ينقلب النظام على إيفانوف نفسه بتهمة اعتماد اللين مع روباشوف الذي يعترف علناً بالتهم الجاهزة قبل أن يعدم. هرب من معسكر الاعتقال الى بريطانيا حيث استجوبه جهاز الأمن وألحقه بفرقة الجيش الهندسية بدلاً من إعادته الى هنغاريا خشية إعدامه. أصيب بانهيار عصبي، فكلف كتابة المنشورات ضد النازيين. أيقظت المحرقة حماسته الصهيونية فعاد مع بعثة الى فلسطين، واعترف في مذكراته بسذاجته لاعتقاده بأنه سيقنع بيغن بمنطقه. ولئن نفر من المقولة الماكيافيلية السوفياتية القائلة إن «الغاية تبرّر الوسيلة» استعملها عذراً للدفاع عن هجمات اليهود على البريطانيين. في منتصف الخمسينات من القرن الماضي كلف رئيس تحرير «أوبزرفر» عدداً من صحافييها مساعدة كوستلر في دراسة إلغاء عقوبة الإعدام في بريطانيا. زادت مقالاته مبيع الصحيفة وساهمت في تصويت مجلس العموم على إلغاء العقوبة، لكن هذا لم يتحول قانوناً إلا عام 1970. أشار في حديث مع صحافي فرنسي الى الاعتقاد بأنه طمح في السابق الى إنقاذ البشرية واكتفائه اليوم بدزينة منها. «هذا صحيح. أشعر برضى كبير إذا خلصت رجلاً واحداً من المشنقة (...) لم أعد أؤمن بالبشرية بل بالفرد». بدا للبريطانيين الذين وهبوه جنسيتهم أنه تلوث بحساسية أوروبية غريبة عنهم عندما ساوى بين العلم والصوفية، واعتبر التخاطر والتبصير حقيقتين أثبتتهما التجربة العلمية. اهتم بمعرفة ما إذا كان الناس يرتفعون بأجسادهم عن الأرض إذا ركزوا على أفكار جميلة، وهدّد مضيفته يوماً برمي وعاء الحساء الثمين من النافذة إذا لم تتوقف عن معارضة رأيه في الإرادة الحرة. ترك كوستلر ثلاثين كتاباً بينها ست روايات وأربع سير، وتوقف سكامل عند «حثالة الأرض» الذي روى فيه بطريقة «لا تضاهى» سقوط فرنسا بأيدي النازيين، ودان ما رآه جبن حكامها وخيانتهم. ساعد كتّاب أوروبا الشرقية، ومنهم يوجين ايونسكو، على الهرب من بلدانهم، وموّل جائزة لتشجيع الفن في السجون. اختار النساء الخانعات رفيقات تعويضاً عن شعور مزمن بالدونية وفق سكامل، وأجبرهن على الإجهاض، وأنكر ابنته غير الشرعية كريستينا. عثرت رفيقة عابرة يوماً على لائحة بما بين مئة ومئتي اسم امرأة مرّت في غرفة نومه قبلها، وارتبط أحياناً بخمس علاقات في الوقت نفسه. ألغى المقدمات في اللقاءات الحميمة لكي يتسع وقته للكتابة والنساء، وقال إن «لا بهجة هناك من دون شعور أوليّ بالاغتصاب». قالت سيمون دوبوفوار إنه كان خشناً في السرير، وذكر ديفيد سيزاراني في سيرته عن كوستلر عام 1998 انه اغتصب زوجة النائب العمالي مايكل فوت. عجز عن الاستحمام وارتداء ملابسه بنفسه بعد إصابته بالباركنسن واللوكيميا، وعزم على الانتحار لكنه خشي على زوجته الثالثة الأميركية سنثيا جفريز من الوحدة ووافق على انتحارها معه. غمسا الحبوب المنومة في العسل وشربا النبيذ والويسكي والبراندي وخضعا لغيبوبة تلاها الموت. في الجنازة تلا حفار القبور الذي كان ممثلاً هاوياً مقاطع من كتاب كوستلر «حجارة بابل» ثم وضع الكتاب على تابوته. ضغط الزر فغاب التابوتان خلف ستار المحرقة واشتعلا. أمهات وبنات لم تدرك سينران أن أدبها يتناول الأمهات والبنات إلا عندما لفتها أستاذ جامعي ألماني الى ذلك. عملت إذاعية في بلادها، وعندما غادرت كتبت قصص النساء المغتصبات والمعنفات والمهجورات في «نساء الصين الطيبات» الذي دخل لائحة الأفضل مبيعاً. كتابها الجديد «رسالة من أم صينية مجهولة» الصادر عن دار شاتو أند وندوس يحوي حكايات مماثلة عن بلاد تثير فضول الغرب وشفقته، وتستثمر حس القارئ الغربي بالمسؤولية تجاه النساء الضعيفات اللواتي يعشن وضعاً ما قبل قرن أوسطي. قبل عشرين عاماً كانت سينران (51 عاماً) في مقاطعة شاندونغ التي وزعت الأرض على العائلات وفق عدد الذكور فيها. حضرت ولادة كان سطل وحل من أدوات الاستعداد فيها، وصعقت عندما وضعت المولودة في السطل فوراً. لم تكن الإناث بلا قيمة استثمارية فقط، بل كن بلا قيمة في كل الحسابات. لكن هذه الجرائم الكاملة لم تمر من دون ثمن. كثيراً ما ابتلعت الأمهات مبيد الحشرات للتخلص من الشعور بالذنب، أو رأين التخلي عن بناتهن للراغبين بتبنيهن أفضل الأمرين. يتجاوز عدد الأطفال الصينيين المتبنين مئة وعشرين ألفاً معظمهم إناث تركت أمهات بعضهن «علامة» عليهن أو معهن علهن تلقاهن في ما بعد. تحمّل طفلات خرقاً من القماش، أو لطخة دهان على أظفر صغير تعتقد الأمهات الساذجات اليائسات أنها ستبقى حتى اللقاء. كانت في عقدها الرابع حين تركت بلادها، لكن الأعوام التي شاركت والديها العيش لم تتعد الثلاثة. اعتبر الأطفال عقبة إنتاجية، وأرسلت الى جدتها عندما بلغت شهرها الأول. في السابعة من عمرها اتهم والدها بالرجعية التقنية ووالدتها بالانتماء الى أسرة رأسمالية، وفور اعتقالهما أرسلت مع شقيقها الى مدرسة خاصة بالأطفال «الملوثين» بوصمة ذويهم. وجدت سلوى وحيدة في الكتب التي زودتها بها معلمة سراً، وعندما التقت والدتها لم تر هذه حاجة الى عناق ابنتها أو المنّ عليها بكلمة حب واحدة. سينران نفسها تركت طفلها في الصين عندما هاجرت ولم تلتق به إلا بعد عامين. ولئن باحت بألمها من إمساك والدتها العاطفي تفضل بوضوح تجنب الحديث عن فراقها ابنها عامين علماً انه يدرس الكيمياء اليوم في إمبريال كولدج، إحدى أهم جامعات بريطانيا، ويعيش معها. تدبرت أمرها في لندن بتنظيف حانوت هندي وتعليم الصينية قبل أن تعرّفها مواطنتها يونغ تشانغ مؤلفة «بجع بري» الى العميل الأدبي توبي إيدي الذي تزوجته عام 2002. تحاكي كتابتها البسيطة الحياة، وتفتقر الى الخيال والاستبطان، لكن أهميتها تكمن في كونها شهادة سياسية وإنسانية عن عالم بعيد وقريب في آن. في فرنسا ضجة شجعت الحكومات الفرنسية مواطناتها على الإنجاب، ووعدتهن بالمساعدات الخاصة بالمواليد الجدد وحتى بدفع بدل ارتياد النوادي الرياضية لاستعادة شكلهن السابق للحمل. تصالح الفرنسيات العاملات العمل والأمومة، لكن التشجيع الملحّ على الإنجاب والإرضاع أنعش عقدة الذنب لدى الأمهات وغسل دماغ الشابات. يبلغ معدل الإنجاب في فرنسا اثنين في المئة مقارنة ب 1.8 في بريطانيا و1.4 في ألمانيا. افتتحت المفكرة إليزابيث بادنتير الجدل بالقول ان البلاد تقف على منعطف في موقفها من تحرر النساء. تواجه الفرنسيات الشابات ضغطاً متزايداً لتكنّ أمهات كاملات، وتصالح معظمهن متطلبات البيت والأمومة والوظيفة، لكن الى متى يبقين قادرات على مقاومة صورة الأم الكاملة؟ تعبّر في كتابها الأخير «صراع، نساء وأمهات» عن مخاوف النسويات من عودة فرنسا الى وراء، وتصمد في وجه النقاد الذين يرون أنها تجهل رغبة جيل الشابات اللواتي تقول كثيرات منهن إنهن سيخترن البقاء في البيت عند الزواج. تشير باد نتير الى النموذج الصالح الجديد للأم الذي يطلب منها تجنب المسكنات عند الوضع، إرضاع طفلها ستة أشهر، عدم استعجال العودة الى العمل، استخدام حفاضات القماش، والنوم مع طفلها في فراشها من حين الى آخر. للمرأة حياة خارج أمومتها، قالت لصحيفة «ليبراسيون»، وهذه المتطلبات تجعلها مستحيلة. ما يغيب عن المقابلة ويحضر ربما في الكتاب ان الدراسات عن محاسن الإرضاع امتدت منذ التسعينات الى معدل الذكاء الذي يصر باحثون على تفوقه لدى من ترضعهم أمهاتهم مقارنة بالمواليد الذين يتناولون الحليب المجفف. ابتزاز أم حقيقة؟ على بادنتير انتظار المزيد من الدراسات والدراسات المضادة.