تذكرت «هيلين كيلر» الأميركية التي فقدت البصر والسمع والنطق، إلا أنها رغم محاولة الإحباط، استطاعت أن تغير مسار حياتها وشكّلت منعطفاً مهماً ودخلت مرحلة التحدي، قامت هيلين بتأليف كتب عدة، وبلغت من الشهرة العالمية حتى حصلت على شهادة الدكتوراه. قبل أيام لفت انتباهي قصة شبيهة بهذه المعجزة الاميركية، ولكنها هنا في السعودية، انها قصة الشاب «مهند جبريل أبو دية»، هذا الشاب الذي تغلب على ظروفه ومجتمعه ومحيط أسرته، وخرج نجماً يضيء اسمه وعلمه وفكره سماء الوطن، وتجربة يجب ان تدرس او تعمم لسبب واحد فقط هو كيف يستطيع الانسان ان يتغلب ويقهر كل الظروف التي كان من الممكن ان تحوّله الى محبط وعاطل وميئوس، المعلومات المتوافرة عنه كما نشرت، انه دخل عالم الاختراعات قبل أن يكمل العشرين من عمره، إذ تجاوزت اختراعاته المسجلة باسمه 22 اختراعاً، وأسهم في تأليف أكثر من أربعة كتب في مجال الفيزياء. حقق العديد من المراكز المتقدمة عالمياً في مسابقات الاختراعات والابتكارات، وحصل على المركز الأول في مسابقة الفيزياء على مستوى المملكة ودول مجلس التعاون مرتين، وقاد فريق المخترعين السعوديين للحصول على المركز الثاني في مسابقة أولمبياد الاختراع في كوريا قبل عامين، وأسهم بجدارة في تأسيس أول جمعية سعودية تُعنى بدعم وتشجيع المخترعين في المملكة بإشراف مباشر من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، كما شارك في أول فريق علمي سعودي لصناعة المسرعات النووية في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وأنشأ أول شركة للإنتاج الإعلامي العلمي، وشركة أخرى للإلكترونيات المتخصصة، وشبكة مواقع على «الإنترنت» للعلوم الفيزيائية باللغة العربية. تعرض مهند جبريل أبو دية لحادث أليم أفقده بصره وأسهم أحد الأطباء في بتر ساقه بالخطأ، وظن الجميع أن المخترع الأسطورة انتهى، إلا أنه سرعان ما عاد للحياة بهمة وعزيمة أقوى ليستكمل أبحاثه واختراعاته السابقة، مكرساً جهده لدعم المخترعين السعوديين من خلال تصديه لحملة مخصصة تتضمن العديد من المحاضرات والكتب المطبوعة، والجوائز التشجيعية، التي تُعنى بنشر ثقافة الاختراع والاستفادة منها وكيفية تحويل الاختراع إلى واقع ملموس لخدمة الوطن. بالطبع قصة نجاح مهند، وددت الحديث عنها، لأنه من الشباب الذين فقد بصره قريباً، وطريق نجاحه لم يتغير بسبب الحادث الذي تعرض له او تتراجع قدرات ذكائه، ظل محافظاً على تألقه الدراسي، وربما جعله الحادث أكثر إصراراً على التميز والابداع. وحسب متابعتي الصحافية، وما نُشر عن موهبة مهند، فقد لمست انها كلها جهود فردية من والده الزميل والاعلامي القدير جبريل ابو دية، وأيضاً بعضاً من أصدقائه، رعاية الموهبة مثل الاحتفاظ بالجواهر الثمينة في اماكن بعيدة من العبث او التعرض للسرقة، وهي لا تأتي هكذا، تحتاج الى جهات اخرى تدعم وتقدم العون والمساعدة. وحالة مثل مهند او غيره من المواهب سواء كان من الشباب او الشابات، أولاً نحتاج الى فريق متخصص يكتشف هذه المواهب، وللأسف الشديد هذه ليست موجودة لدينا، لدينا مندوبون يجوبون الحواري والأزقة من أجل اكتشاف المواهب الكروية، وضمها للأندية، أما جوالون لاكتشاف المواهب او القدرات الابداعية، فهذه غير موجودة، يحتاج منك ان تذهب بنفسك وتخبرهم ان لديك موهبة، وتشكل لجنة وتأخذ موعداً طويلاً ربما تصيبك بالاحباط، او تفسد الفكرة لديك، او تسمع من يقول لك، يا اخي « فكرتك قديمة» فكر في غيرها، مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين، الحقيقة مؤسسة نعوّل عليها الكثير، في البداية حينما تأسست اعتقدنا انها سترسّخ مفهوم اكتشاف الموهوبين ورعايتهم، ولا تركن الى الاعتماد الذاتي من الموهوبين لمراجعة اداراتها، ولا أحد يقول عن نفسه انه موهوب، ومنذ ان تأسست لم نسمع منها تقريراً يبين لنا كم عدد الموهوبين الذين اكتشفتهم او قدمت لهم العون والمساعدة؟ وكذا كيفية الرعاية؟ او انها تطلب منهم ان ينسب الموهوبون والموهوبات نجاحاتهم الى المؤسسة، وتدخل ضمن انجازاتها السنوية. الحقيقة في مجال رعاية الموهوبين، وأنا هنا لا اقصد فقط مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين، فوزارة التربية والتعليم، هي المحطة الاولى التي يمكن ان تكون العيون التي تدل الجهات الاخرى، فمثلما ينتشر مندوبو الأندية في دوري الحواري لاكتشاف اللاعبين الموهوبين، فمدارس البنات والبنين هي اماكن لاكتشاف هؤلاء، ويجب ان تكون هناك إدارة في المدارس تُعني بهذا الموضوع، وتكون همزة وصل بينها وبين الطلاب والطالبات، وتشجع التواصل معهم، أحياناً حتى الطالب الكسول حينما يرى زملاءه يتقدمون عليه ويتفوقون في مجالات مختلفة، تساوره الرغبة لأن يكون مثلهم، وإدارة رعاية المواهب في المدارس والكليات والجامعات هي مستودعات لحفظ هؤلاء من الضياع، وتنير لهم الطريق نحو الابداع والتميز. في مسألة رعاية الموهوبين هناك غياب واضح من الجهات الحكومية، وحتى القطاع الخاص الذي أعتبره لا يزال ينام بعيداً عن البحوث والدراسات والمشروعات العلمية، كما ان المؤسسات الحكومية غير قادرة على تفهم معنى موهبة، وربما صنفتها لديها في أشياء عدة محدودة، بينما الموهبة ليست لها حدود، فهي ربما تكون في الحفظ او القراءة او الرسم وغيرها من المواهب الأخرى المفيدة للمجتمع، تشجيع المواهب ورعايتها مسؤولية مشتركة، والمؤسسات التي قامت اذا بقيت على حالها، تنتظر زيارة الموهوبين لها، فإنها لن تختلف عن أي إدارة حكومية خدمية اخرى، مثل البلدية والجوازات ومكاتب الاستقدام. * إعلامي وكاتب اقتصادي