حين يكون الموضوع جاداً، تكون الصورة مضمخة بالجدية. تصير بذلك المزيج من اللون الباهت والظلال والأنوار الموحية. ذاك ما منحته إحدى حلقات البرنامج الحواري الفرنسي» لكن، وماذا بعد؟» العميق بمحتواه الثقافي والذي يقدّمه حميد برادة على القناة الثانية، مستضيفاً المخرجة سيمون بيتون. هذان الشخصان ناضلا بجرأة، كلٌّ على طريقه، في لحظة تاريخية ما. وحين يجتمعان معاً، لا يملك المشاهد إلا أن يشعر بحماسة المتابعة إلى ما قد تُسفر عنه الحلقة. حميد برادة هو معدّ البرنامج. هذا الرجل الذي يحاور بهدوء، وينطق الكلمات تقريباً بحكمة وموضوعية لا تنمّان عن سنوات نفي عاشها في فرنسا بعد حكم قضائي سياسي سابق في عزّ سنوات الرصاص المغربية، هو الحامل لقب إحدى العائلات المعروفة في البلاد. إنه إعلامي يقدم الخبر والتحليل عبر المحاورة بعد تجريب الصدام النضالي سياسياً ذات وقت. في مواجهته الكلامية الرائقة امرأة مازالت تجرّب بنجاح الصدام النضالي ثقافياً عبر الفيلم الوثائقي والسينمائي، هي الحاملة لقباً متعدد الروافد: مغربي، فرنسي، إسرائيلي. استدعاها كي تقول أسس الوقوف انطلاقاً من هذا التعدد الهوياتي في صف الخط الفلسطيني المشروع. فبدت سيمون بيتون واقعية في الطرح، واضحة الانتماء، وواثقة بمشروعية عملها الفني الذي تتحكم فيه نزعة الإخبار بالحقيقة في كل وثائقياتها التلفزيونية المشهورة عن جدار الفصل العنصري، عن فلسطين، عن محمود درويش وعن عمالقة الطرب العربي. فلسطين الجغرافيا والتاريخ والثقافة وهكذا حين وجه لها برادة سؤالاً عن فيلمها الشهير حول فلسطين، ظهر كلامها ممتزجاً بفرحة الاكتشاف الذي يعري المفضوح من دون أن يكون ثقيلاً على الفهم وعلى الذهن. تحدثت عن صعوبة الحصول على الأرشيف الصوري المُخزن لدى سلطات الانتداب البريطاني قبل التقسيم، ولدى الأممالمتحدة عند التصويت على قرار التقسيم، وكلها تُظهر أن فلسطين كلها عربية، أرضاً وجغرافية وثقافة ولغة. بينت أيضاً الدفاع العربي بالحجة عن زرع إسرائيل في الخاصرة العربية بعد «الهولوكوست» الأوروبي الذي لا يتحمل فيه العرب أي مسؤولية. وبينت كيف أن الصهيونية استغلت القرار وبدأت سياسة ترحيل العرب بكل الوسائل والاستيلاء على الأرض. هذه الأيديولوجية المبنية على «حب مريض للأرض، حب التملك والتدمير، حب لا يحب المشاركة»، كما عبرت عنه ببلاغة. حديث الحقيقة من «عبرانية» بهوية عربية. هذه الهوية التي تؤكدها في كلامها بحنين وإعجاب لم ينل منه الزمن عن الشاعر محمود درويش الذي كان نادراً ما يقبل البوح والحديث عبر الفيلم الوثائقي. هي التي فرضت حلقة عنه ضمن سلسلة خاصة بالتلفزيون الفرنسي العام عن الكتاب العالميين الذي بصموا القرن العشرين. تحدثت عن الرجل الوسيم العاشق بمقدار ما تحدثت عن الشاعر وعن المناضل، وفق طريقته الفردية المتسامية بالحرف والإبداع الأدبي. وتطرّقت إلى كيفية إقناعها له، هي الشابة الغرة الحالمة في ذلك الوقت، بأن يقف أمامها، وهو الذي كان يكره الكاميرا. وبفرح بالغ، باحت بالمتعة الكبرى التي استشعرتها حين سمح لها بتصوير تفاصيل حياته اليومية مبدعاً ومناضلاً وإنساناً، هو «الشاعر القومي الفلسطيني» وهي «المواطنة الإسرائيلية اليهودية». الأمر الذي لم يمنعها من اقتراح سلسلة من ثلاث حلقات عن أم كلثوم، محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش. وهنا تحدثت عن محنتها مع الأرشيف المفقود. لقد اكتشفت كيف أن العديد من أفلام الحفلات مفقودة هي في حوزة الأغنياء. لكنّ الحلقة الخاصة بسيدة الطرب العربي جعلتها تلتقي الكاتب الكبير نجيب محفوظ، والحوار الرائق الذي خصها به في مقهاه القاهريّ الشهير. وهكذا توالى البوح بكثير من الإعجاب بالتاريخ العربي وفنّه. وفي ذلك تحدثت عن فيلمها الوثائقي الذي صورته عن المعارض المغربي الكبير المهدي بنبركة الذي اختطف في منتصف ستينات القرن العشرين، ما خلق حدثاً سياسياً بصدى عالمي كبير إبانها، وهو العمل الذي لم يشكل وثيقة مهمة فقط، بل صُور بمقدار عاطفي كبير ومؤثر. في كل حديثها، اهتمت سيمون بيتون (المولودة في الرباط عام 1955) بنقل حقائق عن خلفيات التصوير وعن الحياة الفنية والثقافية التي انخرطت فيها كلية، وبخاصة حكاية الرحيل إلى إسرائيل حيث فرضت عليها لغة جديدة وحياة مغايرة.