من النادر أن يشاهد المغاربة صورة المقبرة اليهودية الكبرى بمدينة الدارالبيضاء. لكنّ الخبر الحزين الذي حمل وفاة أبراهام السرفاتي خلال أيام عيد الأضحى، شكّل مناسبة لرؤيتها ورؤية الكتابة العبرية فوق بوابتها العتيقة. وحسناً فعلت القناة الثانية «دوزيم» بنقل مراسيم مواراة الثرى للمعارض المغربي السياسي عن سن الرابعة والثمانين بعد مرض طويل في حشد كبير من المسلمين واليهود، في أبرز صور الحقيقة التعددية للبلد. ولم تكتف بالنقل بل منحت الخبر حيزاً كبيراً وفاء لماضي الراحل الحافل بالأحداث: سجنه الطويل، نفيه، وعودته مع بداية العهد الجديد. مراسم الدفن حضرها رجالات دولة وعلى رأسهم الوزير الأول الاشتراكي السابق الذي قاد أول حكومة تناوب عربية عبدالرحمن اليوسفي، والمستشار الملكي أندري أزول والمعارض السابق اليساري وعضو جيش التحرير بن سعيد آية يدر إلى جانب رفيقة درب الفقيد ونضاله كريستين دور، إضافة الى عدد من السياسيين والحقوقيين المعروفين. صور الريبورتاج كانت مناسبة نادرة حول رجل نادر، جعلت من الحدث فرصة مصالحة كبرى وفرصة إعادة اعتبار لماضٍ مشترك بكل ما حبل به من مآسٍ وأحداث نحتت جزءاً مهماً من المغرب المعاصر. فمشاهدة مجموعة من المناضلين اليساريين القدامى داخل أرجاء المقبرة اليهودية، وهم يرددون شعارات النضال المألوفة، ويصفقون ويحملون العلم المغربي والفلسطيني في لحظة فارقة لوداع أبراهام السرفاتي، أحد أبرز مؤسسي حركة «إلى الأمام» المغربية اليسارية المعارضة التي لعبت دوراً سياسياً معارضاً حاسماً لم تسلم معه من متابعة واعتقال أعضائها وغياب آخرين. هي صور حية لزمن مغربي يرى حقيقة أبنائه أمامه بمختلف المشارب والمواقف والاختلافات السياسية التي تعارض بعضها بعضاً، ما يخلق دينامية إيجابية. وقد تمكنت القناة الثانية من منح المشاهد بعض هذه الحياة، وأعقبتها بالحوارات المؤبنة والمشيدة بالرجل ونضاله الطويل، منذ تخرجه مهندساً مروراً بانخرطه في مناهضة الاستعمار، ودوره في مرحلة الاستقلال حين برز كيساري استطاع أن يساهم في حركة سياسية تروم الحرية والعدالة مما كان له أبعد الأثر في مجريات الصراع السياسي لفترة طويلة. حدث فقدان الرجل كان مناسبة أيضاً لقناة «تي في 5» الفرنسية الموجهة للشرق العربي والعالم، كي تقف عند أهم مراحل حياته النضالية في أخبارها. وفي هذا الإطار استضافت المخرجة المغربية اليهودية سيمون بيتون للحديث عن الرجل ونضاله وعن دوره في الحقل السياسي المغربي. سيمون بيتون المعروفة بأفلامها الوثائقية عن فلسطين ومحمود درويش، قدمت تحليلاً واقعياً وأبّنت الرجل متمنية أن تكون وفاة أبراهام السرفاتي مناسبة للتفكير في مغرب أفضل وأقوى. وقبل أيام تناقلت القنوات المغربية خبر غياب مغربي يهودي ثانٍ هو عميد الكتاب المغاربة الروائي والناقد التشكيلي المميز إدموند عمران المالح عن 94 سنة صاحب الرواية المجددة «المجرى الثابت» المتميزة بتفكير عميق حول المغربي اليهودي المغادر والمقيم. وقد تمكن المشاهدون من رؤية صورة الشيخ الأنيق الذي يلقبه المثقفون ب «الحاج إدموند». ظهر في آخر صوره بوجهه المنيف الرزين الذي يحمل آثار سنين النضال كمناضل في صفوف اليسار، ثم كمناضل من أجل الاستقلال، ثم كأستاذ للفلسفة في فرنسا، قبل أن يعود إلى البلد نهائياً. وقد تذكر الجميع مواقف الرجل المشرفة تجاه القضية الفلسطينية ورفضه القطعي لتهجير اليهود المغاربة إلى إسرائيل، هو الذي كان دوماً يعتبر نفسه مغربياً أولاً قبل أن يكون يهودياً. أحداث حزينة حول رجلين من عيار ثقيل لهم أثر عميق على إبداع وسياسة البلد، وقد تمكنت التلفزة من تذكير المغاربة وبخاصة الأجيال الجديدة بهذه التعددية المغربية. فإدموند وأبراهام كانا من جيل اليهود الذين جعلوا من المغرب ليس انتماء ومنبت الجذور العائلية القديمة فقط، بل مكان العيش والحياة... وبل أكثر من ذلك، ساهما في خلق حقيقته وساهما في قضاياه المصيرية، ومنها الدفاع عن القضية الفلسطينية التي دافعا عنها بوضوح وبتفان. وعند مشاهدة الصور ومطالعة الخبر لا يمكن للمشاهد إلا أن يتساءل عما يتبقى من المشاركة المغربية في شقها اليهودي الثقافي المتفرد الذي يؤسف على ذهابه برحيل هذين العلمين... فهل تكفي مشاهدة الاسكيتشات الناجحة للكوميدي المغربي اليهودي المتألق جاد المالح التي تقدمها التلفزة من حين وآخر من تعويض ما فات أو تعضده؟ تعويض رصانة الأدب وأثر السياسة.