«تعبّر هذه البواكير الفنية عن آمال شباب اليرموك المحاصرين والنازحين منه، في إعادة فتح المخيم وعودة الحياة له، وتتحول إلى أسلحة في وجه القتلة ووجه العالم الصامت ليكون لسان حالها: نحن في اليرموك بخير... ماذا عنكم أنتم». بهذه الكلمات أنهيت مقالي عن «الحركة الثقافية في مخيم اليرموك» في ظل الحصار قبل عام. كان الأمل ما زال حاضراً على رغم قسوة الأوضاع. الشباب المبدعون أوجدوا حياةً في مخيم يخلو من كلّ مقومات الحياة. أخرجوا من صميم الواقع الأسود فرحاً وفناً يُبشّران بفرجٍ قريب. أما اليوم، وبعدما دخلت قوات «داعش» إلى المخيم وسيطرت على جزء واسع منه، أصبح الحديث عن حركة ثقافية كتلك التي كانت قبل عام وهماً. لم يعد للحصار طعم الأمل الذي احتفظ به هؤلاء الشبان. لا مجال لأي إنتاج ثقافي داخل المخيم. الحصار من أمامهم و «داعش» بكل تطرفه من خلفهم وبينهم. مصاب الحصار ومصاب الموت تحت سيوف «داعش» دفعا بمن تبقى من المخيم إلى النزوح منه إلى أماكن قريبة، مسدلين الستارة على ثلاث سنوات من الأمل كمحرك لصنع الفن. «وكأنك تخرج من جحيمين تاركاً وراءك جنتك الوحيدة (المخيم)»، هكذا يعبّر أحد الشباب الخارجين من «جحيم» داعش الذي جلبه على المخيم المحاصر. لم يعد هناك متسع أمام فرقة «شباب اليرموك» للغناء بين ركام المنازل المتهاوية في المخيم. فعل كهذا قد يودي برأس صاحبه في «دولة داعش»، التي حطمت كل الأدوات الموسيقية التي كان يُعزف عليها في أروقة المخيم خلال السنوات الثلاث الماضية. الصورة وصاحبها مهددان أيضاً. لا حق للتصوير إلا ل «داعش». هكذا يتخلى نيراز سعيد، مصور الفوتوغراف، الذي نقل مأساة اليرموك في الجوع والحصار عن حلمه بعودة الحياة والسلام إلى اليرموك. قد يكلفه بحثه عن الجمال في كل هذا الركام الموت ذبحاً. تسقط كل القدرات الإعلامية والفنية التي يمتلكها «داعش» لتضخيم إرهابه ودمويته أمام صورة طفل يتأمل الخراب. لن تتمكن كاميرا سعيد أو غيره هذه المرة من التقاط شذرات جمالية في حضرة المصيبة. أو توثيق أحداث الحصار ويومياته «كي لا ننسى» بعين لا مرجع لها إلا الإنسان. انتهى مشهد الحياة على رغم الحصار والقحط. وبدأ مشهد أسود لن ندرك تفاصيله قبل سنوات، حاله حال نوائب الفلسطينيين اللامتناهية. غدا المخيم صامتاً، لن نسمع بعد اليوم موسيقى تصدر من ذاك المكان القصيّ. ولن تتلقف الصحف صوراً جديدة لأطفال المخيم وحاراته وأزقته. بعد فشل كل المفاوضات والمناورات لإحياء مخيم اليرموك، وهجرة أكثر من نصف سكانه إلى أوروبا، ونزوح من تبقى منهم بعد دخول «داعش»، لم يعد هناك مكان للأمل والتفاؤل في حلّ قضية اليرموك. لكنّ الفن ليس حبيس المخيم، فأبناء اليرموك إذا كانوا محكومين سابقاً بالأمل بحلّ أزمة مكانهم، فاليوم هم محكومون بالعمل خارجه. ليس دفاعاً عن اليرموك وحسب بل بحثاً عن «فلسطين»- التي أصبحت اليوم في حسابات اللاجئين الفلسطينيين المتناثرين في العالم- أبعد من أي وقت مضى.