ما زال «مخيم اليرموك»، الواقع جنوب العاصمة السورية، يتصدّر نشرات الأخبار وصفحات الجرائد والمجلاّت، وقد تستمرّ مأساته مع استمرار حصار لن ينفكّ في ظل تعنّت الأطراف المختلفة وعدم إيجاد حلّ يُنهي أزمته ومعاناة أهله المحاصرين. ولكن مع كلّ مشاهد الألم والبؤس التي ارتبطت باسم «اليرموك» خلال الآونة الأخيرة، يبقى لهذا المخيم وجه آخر. وجه لا يبدو عليه الموت والجوع، بل أمل كبير في انتظار الفرج. وجه يكسو سحنته إصرار على البقاء، وتعبّر عنه موسيقى الدمار، وتنقله كاميرا لا يعنيها نقل الحدث بمقدار التماس الجمال فيه. هذا الوجه الذي لا نعرفه عن اليرموك يرسمه فنانو المخيم الذين لم يمنعهم الجوع والحصار من قول كلمتهم كما يريدون، لا كما يريد عصر القتل والموت. «رح نخلي صوت الموسيقى بالمخيم أعلى من صوت الرصاص»... بهذه الكلمات البسيطة تعبّر فرقة «شباب اليرموك» عن آمالها. شبابها لا يصبون لمجد ما، بل كل ما يريدونه إعلاء الموسيقى على أي صوت آخر، حاملين أداتهم الوحيدة، بيانو يبدو عليه آثار ركامٍ، ينتقلون به بين الدمار ليغنوا للأمل والأرض. ولعل آلة الموسيقى هذه التي تتوسط ركام المنازل والذكريات، وحولها شبان «غير احترافيين»، تخلق صورة مفارقة تحاكي وضع سورية المنكوبة بعامة والمخيم بصورة خاصة. هنا لن تصدح حناجر هؤلاء بخطاب سياسي يمعن في المغالاة، ولن يحاولوا اجتراح شكل جديد للأغنية العربية. كل ما يريدونه يختزله قولهم «لسّه المخيم بخير». موسيقى وبارود تشكل هذه البساطة المفعمة بالأمل، صورة فنية وليدة الحصار، تستمد أصالتها منه، وتحيل قبح المكان المدمر إلى جماليات، محولة الدمار الحاصل جراء القصف والاشتباكات إلى فضاء رحب للموسيقى. هذه البساطة في تكوين الصورة، تمتد لتصل كلمات أغاني الفرقة، وهي كلمات يطغى عليها خطاب إنساني غير متكلف. فالميدان هنا لا يتسع للنخبة، إنما يفسح المجال للعامة الباحثة عن حل ينهي أزمة المكان - المخيم. تعبّر أغاني الفرقة إذاً عن حال اليرموك تحت وطأة الحصار، مبتعدة عن السياسي الضيّق، لتتجه نحو الإنساني الأشمل، حاملة نوستالجيا تطغى على مشهد اليرموك اليوم. إلا أن الحنين هنا يكون غاية لا وسيلة، إذ لا تختبئ خلف هذه الحالة الشعورية رسائل سياسية تخدم طرفاً من دون آخر، كما نجد في صورة الإعلام الرسمي اليوم، إنما تشكل الغرض الذي تدعوه الفرقة وتحاكيه. لا تبقي فرقة شباب اليرموك موسيقاها حكراً على أبناء اليرموك المحاصرين، إنما تتحول إلى جسر يلتقي عنده طرفا مأساة المخيم: النزوح والحصار. فحالة الحنين تلك، تشمل علاقة محاصري اليرموك مع المهجرين منه، ما يمنح هذه الحالة الفنية رسالة إنسانية أيضاً، بحيث تتحول أغنيات الفرقة إلى رسائل حادة اللهجة في وجه تجّار الدم ممّن يرفضون فتح طريق اليرموك وعودة النازحين إليه. ومن تلك الشذرات الموسيقية التي حاكت حال اليرموك، على سبيل المثل، «راب» سامر أبو حشيش، وبعض أغاني الشاب الفلسطيني محمد نور أحمد (أبو كابي). «فوتوغراف» اليرموك مثلما ساهم «الفوتوغراف» أو المصور في توثيق الحدث السوري على مدى ثلاثة أعوام ونيف، ساهم «الفوتوغراف» في توثيق نكبة اليرموك، محققاً بذلك غرض الإخبار، ناقلاً صورة الحدث، مساهماً بدوره في توثيق أحداث المخيم منذ إعلان الحصار عليه، لحظةً إثر لحظة. إلا أن الفوتوغراف لم يبقَ حبيس وظيفتي الإخبار والتوثيق، بل تعداهما إلى رسم حالة فنية تحاكي الحدث وتلتقط جماليته ومآسيه، وهذا ما يعبر عنه نيراز سعيد (مصور فوتوغرافي) بقوله: «أرى أن الصورة الحقيقة في مخيم اليرموك كانت أصدق من الكلمة، لذا اخترت أن ألتقط الحالة في مخيم اليرموك من منظور آخر. وهو ما بعد الحدث». صور سعيد لا تقف عند حدود نقل الحدث إنما تتعداه للبحث في ما وراء هذا الحدث من آلام. وهو يضيف في هذا السياق: «غفل الإعلاميون داخل المخيم عن المعاناة الحقيقية للناس، فطغى عليهم حدث إدخال المعونات إلى المخيم مثلاً، في وقت كان كثيرون من المهمشين يموتون جوعاً في بيوتهم. هؤلاء المهمشون هم موضوع صورتي». لم تبق صور سعيد حبيسة المخيم، إنما غادرته حاملةً معها آمال المحاصرين، إلى رام الله، حيث عرضت صوره في معرض خاص به بعنوان «للحلم بقية» في متحف محمود درويش في رام الله في حزيران الفائت. ومن بين مئات الصور التي عرضت في فلسطين/ الحلم لهؤلاء المحاصرين صورة تصور كلباً ضعيفاً ينظر إلى إحدى جنازات شهداء الجوع في اليرموك، عبر التركيز ب «فوكس» الكاميرا على الكلب. ترتبط تلك الصورة بحدث إعلان أكل لحم القطط والكلاب في اليرموك بسبب نفاد المواد الغذائية تماماً. إنّ جمع كادر الصورة للكلب الضعيف الجائع ونظرته إلى من مات جوعاً تُجلي علاقة قد لا ينقلها الخبر. أو بعبارة أخرى، يرى الكلب هنا أن الدور آتٍ إليه، في مكان صار مهدداً فيه، وفي الوقت ذاته تصور شكل العلاقة الجديدة التي أفرزها الحصار بين الإنسان والحيوان، إذ لم يعد الكلب حيواناً يتخفى في نهارات اليرموك العامرة، بل أتاحت له الشوارع الخالية تسكعاً مريحاً قبيل الموت أكلاً. هذه القسوة التي تحملها الصورة، تُخرج صور نيراز سعيد من إطار المحلي إلى الإنساني العام. فالصورة هنا تثبّت الزمن للحظة، كي تعيده إلى ذهن العالم كلما نسي ما حصل في المخيم. شعر فلسطيني- سوري «أريدك حياً قالت الأم/ تنزفُ تحدياً للموت بأمل مع أصوات الرصاصِ/ تنظرُ إلى السماءِ منتظرةً رحمةً ما/ سقفها يطلُ بألف عين/ ولا تعابير/ هل يبكي السواد هذا؟/ هل من رحمة تنتظرنا؟/ بيوتٌ لا تشكو ألمَ الشقوقِ .../ كم من طفلٍ تركَ ربيعه مرغماً كشهيد/ كم من بيت بكى دون أن ندري/ كم من أمٍ لعنت الشهادةَ... وكابرت مبتسمةً كوطن»... هكذا يعبر الشاعر الفلسطيني الشاب علي مصلح عن وجع المخيم الذي عاش فيه وبنى بين أزقته معاني أشعاره، حاله حال من سلف من شباب المخيم المبدع. إنه يحمل اليرموك شعراً على ظهره، متنقلاً بين ثنايا العاصمة ليلتقط ما تناثر من معاني المخيم هنا وهناك، مستذكراً بيوته التي «تبكي دون أن ندري». لم يكن الشعر حكراً على الفلسطيني في فجيعة اليرموك، إذ لم يصمت قلم السوري الذي عاش في المخيم وعرف أروقته، وذلك ما تعبر عنه كلمات الشاعر السوري الشاب هشام حميدان في قصيدة عنوانها مخيم اليرموك: «سحابة الذكريات لا تنفك عن ملاحقتنا كأنها العدم/ من أنا دون ذاكرتي؟/ من أنا في هذا الخواء المكتفي بذاته؟/ عليّ أن أصرخ بملء الهباء/ عليّ أن أعترف أيضاً أنه لا نفع من الصراخ/ لا نفع من أي شيء كان أو سيكون/ على أحد ما أن يستعير صوتي/ ويصرخ هناك في البعيد/ في داخلي: لا بد أنني قريب مني/ لا بد أنني قريب مني الآن وهنا»... هكذا يتحول المخيم في كلمات حميدان إلى «سحابة ذكريات» لا تفارق ذاته، يقف أمام فجيعة اليرموك عاجزاً عن أي فعل، فاقداً أي إيمان في حضرة غيابه عن المخيم، ومتماهياً معه، وكأنه والمخيم كلاً واحداً لا يمكن الفصل بينهما. السينما... ذاكرة للنسيان سيبقى اسم حسان حسان علامة فارقة في تاريخ مخيم اليرموك، فهذا الشاب الفلسطيني الذي قضى تحت التعذيب ساهم في رسم الصورة الثقافية لليرموك المحاصر. وقد سعت مجموعة «ردّ فعل» التي أسسها حسان حسان وحسن طنجي وصهيب أبو شهاب، إلى خلق محاكاة ساخرة للوضع في المخيم، لا سيما في سلسلة «على هوى الحصار» التي كانت آخر الفيديوات التي صورها حسان. «ردّ فعل» التي قدمت قبيل قصف المخيم مجموعة اسكتشات نشرت على اليوتيوب ترصد حال المخيم، وتوثق مواقف من الحياة فيه عبر فيلمين قصيرين الأول «وجوه من المخيم» لحسن طنجي، والثاني «ميغ» لثائر السهلي. يشكل الأول عبر التقاطه مجموعة من الوجوه في المخيم حاله التي كان عليها قبل تعرضه للحصار والقصف، بينما يوثق الثاني حادثة قصف طائرة الميغ لجامع عبد القادر الجزائري ومدرسة الفالوجة الكائنين في منتصف المخيم، مظهراً أثر القصف في نزوح الأهالي عن المخيم. تعبّر هذه البواكير الفنية عن آمال شباب اليرموك المحاصرين والنازحين منه، في إعادة فتح المخيم وعودة الحياة إليه، وتتحول إلى أسلحة في وجه القتلة ووجه العالم الصامت ليكون لسان حالها «نحن في اليرموك بخير... ماذا عنكم أنتم».