ماذا يصنع كاتب عراقي الآن؟ «مدينة الصور» هي الرواية الرابعة للعراقي لؤي حمزة عبّاس، يستحضر فيها البصرة كما خبرها. ويمتلك حمزة عباس في رصيده ثلاث روايات أخرى، إضافة إلى مجموعات قصصية، منها «على دراجة في الليل» الحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية، و «إغماض العينين» الحاصلة على جائزة الدولة العراقية للإبداع القصصي. ترد الجملة المركزية (الصور تكذب) على طول روايتك «مدينة الصور»، في الحين الذي منحت فيه بطولة كبرى للصور بوصفها محور تحريك الأحداث، كيف تفسر هذه الثنائية؟ - الصور تكذب وفي كذبها تعيد تمثيل الوقائع، فيصبح الواقع نفسه احتمالاً، لكل وجه صورة ولكل حكاية وكل حلم، ذلك ما تدوّنه الرواية وهي تواصل سرد وقائعها من صورة إلى أخرى، ومن حكاية إلى حلم. مع الصورة لا يُعد الحدث الماضي ماضياً حتى لو كانت صورةً لمقتل الزعيم عبدالكريم قاسم أو لعبدالحليم حافظ على سرير المرض، إنها تردم، بأكثر من حيلة، المسافة الفاصلة بيننا وبين موضوعها، حتى ليُعد المشهد تجديداً للواقعة لا استعادة ذكرى حدث عابر بعيد. هل نكون منصفين إن قلنا إن «مدينة الصور» تتكئ في المقام الأول على التاريخ، ويلعب فيها المكان، واللغة – كمعادل موضوعي للصور – دور البطولة؟ - ربما كان من المهمات الأساسية للرواية وهي تسعى الى كشف وجه بليغ من وجوه التجربة الانسانية ومعاينة خصالها النادرة، التقاط سمات التنوع وقراءة الثراء، الندرة هنا تعني الخصوصية في ما هو مشترك، إن انشغال «مدينة الصور» بعقد السبعينات من القرن الماضي هو إنصات للحظة عراقية أخيرة في زمن التنوع والتعدّد والثراء، فلم ينقض العقد إلا وقد سحب معه آخر خيوط المشاركة الإنسانية من نسيج المدنيّة لتلبس الحياة بعده ثوباً واحداً، ويُمنع عنها الحديث بغير لسان واحد، ولن يكون لها إلا مزاج واحد، لقد وقعت البصرة أسيرة الأيديولوجيا التي تؤمن أن بإمكان الحياة أن تسير على ساق واحدة، وهي الأيديولوجيا التي قدمت للعالم أبشع مشاهد التخلف والعنف على أرض العراق منذ نهاية سبعينات القرن الماضي حتى اليوم. مثلما يعد التنوع سمة إثراء للمدينة، سيعد عامل غنى للرواية التي تشرب من مياه حكاية تتجدّد، وما الحكاية إلا الناس وقد نُظموا في عقود من أحلام وآلام، تمنحنا الحكاية عندما تتجدّد وعداً بتجدّد الحياة، بالانتقال إلى فصول لم يؤت لها أن تُكتب بعد. تستثمر الرواية، منذ عنوانها، معجزة الصورة، تواجه إمكاناتها الواسعة في الأداء والتعبير، وتعمل عبر تماس الفوتوغراف مع سطح الموضوع على الوصول إلى عمقه الخفي، واستعادة العلاقة الأساس بالعالم عبر الانفصال، لحظة، عنه، إنها لا تقيم جدلها مع الواقع بقدر ما تقدّم، ببساطة، بيانها الخام عنه كما ترى فرجينيا وولف، وهي تحقق اقتراحاً مفتوحاً للكتابة الروائية. مدينة الصور، بهذا المعنى، هي مدينة الماضي الذي يكشف راهناً، مدينة الراهن الذي لا يُجرَّد عن ماضيه، بينهما تُرسل الصورة، في لحظة صدق، إشارتها الكاذبة، وما بينهما تواصل الرواية نسج عوالمها، فلا تكون الصورةُ الحدثَ نفسه، بل هي طاقته، روحه التي تحكي، حكايته التي تعمل الرواية على النزول بها، عميقاً، إلى مياه الإنسان. في «ملاعبة الخيول» نشرت نصاً أخيراً يقدّم كولاجاً وشذرات من باقي نصوص المجموعة، كيف ترى فرص الكاتب العربي مع التجريب؟ - لا يكفي أن تجتمع القصص في كتاب لمجرد كونها كُتبت في أوقات متقاربة، ما يحتاجه الكتاب القصصي أعمق من ذلك وهو يبحث عن براهينه ومسوغات وجوده، ليست العتبات، بهذا التصوّر، إضافات عارضة أو مكمّلات، إنها إشارات طريق وعلامات تولّدها القصص وهي تقترح تجاربها في أداء الحكاية. من هنا لا أنظر إلى النص الأخير في «ملاعبة الخيول» بصفته كولاجاً أو تجريباً بقدر ما هو مفصل أساس في بناء المجموعة القصصية، كلُّ مجموعة تُنجز أداءها الجمالي على النحو الذي تقترحه مادتها ونمط تخييلها، وبذلك يمكن أن تكون كتاباً. معادلة صعبة أن تبث هماً مجتمعياً (مثل العنف في العراق والقتل على الهوية في زمن الميليشيات) عبر قالب مثل القصة القصيرة (مجموعة إغماض العينين) المعتادة على أن تكون صوتاً فردياً، ومن دون أن تتحول النصوص لرصد روائي توثيقي لحقبة ما، كيف توصلت الى هذه المعادلة؟ - لم تنفصل (إغماض العينين) عن الواقع على رغم تطلّعها الى إنتاج كتاب قصصي تتوازن فيه فاعلية الحوامل القصصية مع قوة المحمول، إن اقتراب القصة من قسوة الحدث العراقي لم يجعل منها نصاً تسجيلياً أو صورة فوتوغرافية بكلِّ ما تحتويه الصورة من حكمة وجمال، إن ما عوّلت عليه المجموعة هو رؤية ما لم يُر في مشهد قتل الإنسان، مشهد القتل الذي قدّم ثيمة تتواصل المجموعة محاولةً إعادة تشكيلها في كل مرّة. كان على القصة أن تقول كلمتها بمواجهة حياة أقرب إلى الجنون بتحولاتها الغريبة ونهاياتها المأسوية. ثمة إنسان صامت مغيّب، إنسان لم يُمنح حق اختيار موته والطريقة التي بها يموت، كنت أعيش لحظة موت إنساننا في كل مكان محاولاً استنطاقه في لحظته المريرة تلك كما لو كنت أراه في حلم، ففي الحلم يموت الناس أيضاً. لم أقترب من الموت إلى هذه الدرجة إلا دفاعاً عن الحياة وانتماءً لها، القصة نفسها تعبير عن الحياة وإعلاء كل ما هو جميل فيها، فالموتى لا يكتبون القصص. كيف ترى المشهد السردي من قصة ورواية على الساحة العراقية، ثم العربية؟ - كثيراً ما شبَّهتُ الكتابة الإبداعية في العراق مثل السير في حقل من الألغام، يصعب على الكاتب معه أن يحدّد نتائج خطوته المقبلة، هنالك ثمن صعب على الكاتب أن يدفعه في كلِّ مرّة، في الحرب عليك أن تكتب عن الانتصار، في الحصار عليك أن تكتب عن البطولة والمواجهة، في سنوات الفوضى عليك أن تكتب عن الديموقراطية والتسامح حتى وأنت تتخبط في أنهار الدم والرماد، من الواجب أن تكتب عن الوطن حيث تبدو الوطنية معنى ملتبساً بالنسبة الى شخص منتهك، في مثل هذا الوقع ولدت كتابتنا، كتابة جيل الثمانينات، الجيل الذي لبس المأساة كما يلبس قميصاً ضيّقاً وقد وجد في قصيدة النثر مركبه المناسب وظلّت فنون السرد تعاني ألم الكتابة وقسوة المواجهة جرّاء طبيعتها الكنائية، شخصياً شغلتني قدرة الكتابة القصصية الواسعة على أن تقول، لذلك عملت على كتابة ألمي الخاص، ألم الفتى الجندي الذي شهد الموت قبل أن يشهد لذائذ الحياة. هل ترى أن بإمكان القصة القصيرة العربية أن تستعيد دورها بالمقارنة مع حضور الرواية؟ - تحيا القصة القصيرة العربية اليوم واحدة من أهم مراحل حياتها، وتعيش تنوعاً لم تشهده من قبل، على رغم جسامة أن يصبح الأدب العربي مهرجاناً للرواية لا يخلو من هوس وانفعال، الغريب أن دعوات نقدية تتعالى مبشرة القصة القصيرة بأنها لن تكون أكثر من «مشهد سردي في نص روائي». ما معنى أن يذهب عدد من القصاصين العرب لكتابة الرواية؟ سؤال يحتاج من التأمل والتفكير أكثر من الحاجة الى مراجعة الفروق النقدية بين القصة القصيرة والرواية لتأكيد أيهما أكثر استجابة لطبيعة العصر وأوضح تعبيراً عن مشكلات الإنسان، يتوجّه الكثير من القصاصين العرب اليوم لكتابة الرواية لأسباب غير روائية، ذلك ما يبدو واضحاً على طبيعة ما ينجزون من أعمال، في المقابل ثمة كتابة قصصية عربية تحتاج الى الكثير من العناية لما تحمله من جدّية في التعامل مع نوع يبدو هامشياً، إلى الدرجة التي يمكن القول معها إن نهضة قصصية عربية تتحقق بما يشبه الصمت، ثمة آليات تتغير وتقنيات تُختبر ولغات تُجرّب وموضوعات مبتكرة تُعاش بما يؤكد قدرة القصة العربية وإمكاناتها غير المحدودة من جانب وتواطؤ النقد من جانب آخر وقد ارتضى في معظمه أن يكون محرّكاً لآلة الجوائز والمناسبات، بما يتطلّب تعديلاً جوهرياً على السؤال ليكون: ما معنى أن يذهب عدد من القصاصين العرب لكتابة الرواية والنقاد للعناية بها لأسباب غير إبداعية؟ إن ثمة معنى خطيراً لمثل هذا السؤال، لا يقف عند حدود الكتابة الأدبية، قصصية أو روائية أو نقدية، إنما يتعدى ذلك ليلامس طريقة التفكير التي توجّه حياتنا وتتحكّم بأحوالنا. حصدت جائزة الدولة العراقية للآداب... هل ترى ان الجوائز معيار صادق للعمل الجيد؟ - لم تكن الجائزة يوماً معياراً للصدق وجودة العمل، على رغم كلِّ ما يصحبها، عادةً، من تأويلات نقديّة وتقولات، أهداف العمل وشروطه الجمالية لا تحيا إلا بعيداً عن فكرة الجوائز وضجيجها، الكتابة إنصات عميق للذات، والجائزة سيرك واسع مفتوح، طبول وأنوار كاشفة تهدّد إرادة الكاتب في أن يكتب ما يشاء على النحو الذي يشاء، إنها سلطة من نوع آخر أكثر قسوة وأعمق تحكّماً تفرض سطوتها على مشهد ثقافتنا العربية. نشرت أعمالك في دور نشر من جنسيات عربية مختلفة، وأخيراً أسست دار نشر «وراقون»، كيف ترى فرصة الكتاب العربي في اجتياز الحدود بين الأقطار المختلفة؟ - «ورّاقون» مشروع اقترحته مجموعة من المشتغلين في الحقل الثقافي في مدينة البصرة، بتمويل خاص، للبحث عن بدائل ممكنة للارتقاء بصناعة الكتاب، فكرة المشاركة كانت أساسية في دعم مشروع الدار، خطواتنا الأولى مع العربية للعلوم ساهمت باختصار الجهد والوقت، لكن خلل الحياة السياسية في العراق يترك ظله على كلِّ شيء ومنه سوق الكتاب بلا شك. أما حركة الكتاب بين الأقطار العربية فما زالت أكثر من مؤسفة، لا بسبب محددات الجهات الرسميّة وقناعاتها المعروفة فحسب، بل بسبب انقطاع السبل وصعوبة التواصل. ستحافظ فكرة التعاون بين أكثر من دار نشر عربيّة على رياديتها في هذا المجال لتحقيق حضور أوسع للكتاب العربي، اشتراك أكثر من دار في طباعة كتاب واحد سيحقق له حضوراً يستحيل تحقيقه بغير فكرة المشاركة، وذلك ما نسعى إليه بالفعل ونعمل على إنجازه. هل تخشى على حرية الإبداع من «داعش» وغيرها من الجماعات المتطرفة؟ - الخشية اليوم على الحياة نفسها، لا على الإبداع وحريته فحسب. أمام عواصف القتل والتهجير والاحتراب الطائفي يستحيل أن نفكر بالإبداع وحده، الإبداع في مثل أحوالنا هو الدفاع عن الحياة بمختلف صورها بمواجهة قوى الهمجيّة والظلام. يحتل «داعش» أراضي شاسعة من العراق، كيف ترى مستقبل الجمهورية العراقية، والمنطقة بأسرها في ظل هذه المتغيرات؟ - لا يمكن أن تُعدَّ «داعش» خلاصة نهائية لمأساتنا، إنها صفحة من تراجيديا طويلة الأمد، نقلة أخرى، تتبعها نقلات، على رقعة صراع واسعة. ما هو مخيف حقاً في مشهد حياتنا هم لاعبو الظل، داخل العراق وخارجه، الذين تتهاوى بين أيديهم المصائر وتتساقط الآمال، عراق ما بعد 2003 كان وهماً تمنينا أن يكون عتبة للخلاص من حكم تهاوى في فرديّة مطبقة من أجل بناء مجتمع مدني يؤمن بالديموقراطية ويتطلّع للمستقبل، ما تحقق في وقت قياسي كان مفزعاً بحق، انهيار تام لدولة المؤسسات، التي لم تكن قد اكتملت على امتداد ثلاثين عاماً، وتراجع لما قبل الدولة. نحن اليوم محكومون من الداخل من جانب رجل الدين وشيخ العشيرة، مثلما نحن محكومون من الخارج بصراع المصالح العابرة للأوطان. ما أعيشه من خوف في لحظتي الراهنة يمنع عني التفكير الواضح بالمستقبل، وما أراه من تراجع يقول الفاجعة على أكمل وجه.