أنعش انطلاق العرض الجماهيري لفيلم «سيلينا» في صالة سينما دمشق المحدّثة، أخيراً، الطقس السينمائي الذي كاد أن يتلاشى من يومياتنا. وينطوي إنجاز هذا الفيلم على مؤشرات لعل أهمها يتمثل في استعداد القطاع الخاص لخوض مغامرة الإنتاج السينمائي بعدما اتهم بالتقصير في هذا المجال، وبالسعي إلى الربح السريع عبر الاستثمار في الدراما التلفزيونية، فلم يبق من معين للسينما، في ظل هذا الواقع، سوى المؤسسة العامة للسينما التي لا تتجاوز حصيلتها السنوية ثلاثة أفلام روائية طويلة في أحسن الأحوال. جرى حفل افتتاح «سيلينا» الذي حققه المخرج حاتم علي، وحضره عدد كبير من صناع السينما والدراما في سورية والعالم العربي، في صالة سينما «دمشق» بعد صيانتها وترميمها وتحديثها وفق أسس عصرية، وتزويدها بتقنيات تكنولوجية عالية من ناحيتي الصوت والصورة. ويتبدى هذا واضحاً لدى الدخول إلى مبنى صالة العرض المرفه، والذي تحول اسمه إلى (سينما سيتي) كي يلائم هذه الفخامة. وحتى «شباك التذاكر» بمعناه التقليدي لم يعد موجوداً، فالزائر يتمعن الآن في شاشة الكمبيوتر، ومن ثم يختار مكاناً من بين الأمكنة الشاغرة، ويُستقبل بابتسامات الموظفين والموظفات، وعليه أن يدفع ثلاثمائة ليرة سورية (نحو ستة دولارات أمريكية)، ولئن بدا هذا الرقم عالياً، قياساً إلى دخل المواطن السوري، فإنه مقبول بالنظر إلى أن الصالة التي جددها المنتج نادر الاتاسي، تتيح شروط عرض عريقة مريحة من النمط التقليدي، تعيد الاعتبار لفن كاد أن يفقد الهيبة التي يستحقها. يستكمل نادر الاتاسي من خلال إنتاجه لهذا الفيلم مشروعه الفني مع الرحابنة، فقد أنتج من قبل وبتوقيع المخرجين يوسف شاهين وهنري بركات ثلاثة أفلام هي: «بياع الخواتم»، «سفر برلك» و»بنت الحارس»، ثم طرأت ظروف حالت دون انجاز هذا الفيلم الرابع، الذي كان يجب أن يكون هو نفسه الفيلم الذي يحمل اليوم اسم «سيلينا». لقد تأجل يومها حلم نادر الأتاسي الرابع، ليتحقق، أخيراً، في إنتاج نسخة سينمائية من مسرحية «هالة والملك» للأخوين رحباني، والتي يعود انتاجها المسرحي إلى نهاية ستينات القرن الماضي. خيال واقعي والمعروف أن منصور وعاصي الرحباني هما اللذان كتبا قصة المسرحية، التي يستند الفيلم اليها، بعدما قام منصور، بالتعاون مع ابنه غدي، بإعادة صوغها للسينما. تجري أحداث الفيلم، وكذلك المسرحية، في بلدة سيلينا المتخيلة التي تستعد للاحتفال بعيد «الوجه الثاني» حيث يضع أهالي البلدة أقنعة مختلفة في هذا اليوم، لكن الملك (جورج خباز نصري شمس الدين في المسرحية) يقرّر إلغاء الاحتفال بعدما اخبره العرّاف (انطوان كرباج) بأنّه سيتزوّج أميرة ستزور البلدة في هذه الليلة. في هذه الأثناء تحل على هذه البلدة الفتاة الفقيرة هالة (ميريام فارس فيروز في المسرحية) كي تبيع الأقنعة المطلوبة لمثل هذا اليوم، فيظن الأهالي أنها الفتاة التي تنبأ العرّاف بقدومها كي تكون الزوجة المنتظرة للملك. فيأخذونها إلى القصر الملكي، وهي لبساطتها وصدقها تحاول إفهامهم أنها مجرد فتاة فقيرة تبيع الأقنعة، وان والدها اسمه هب الريح (ايلي شويري)، وهو بسيط وفقير ويحتسي الخمر في حانة جورية (ليلى اسطفان). على رغم الإغراءات ترفض هالة عرض الملك بالزواج منها، وتتصدى للحاشية التي تحاول إقناعها بهذا الزواج لغايات شخصية. عندئذ يتنكر الملك بزي الشحاذ ليعرف حقيقة مشاعر الفتاة الفقيرة والحسناء هالة، لينتهي الفيلم على انه مجرد حلم من أحلام تلك الفتاة البريئة. هذه الحكاية البسيطة تجري ضمن قالب كوميدي طريف يحوي الكثير من المفارقات والمواقف الساخرة، ويتجه الفيلم، كذلك، نحو الكوميديا السياسية التي تلمح، على نحو تهكمي، إلى العلاقة التي تربط بين الحاكم والمحكوم. وثمة حوارات ذات رمزية عالية، وخصوصاً ذلك الحوار العميق والبسيط الذي يجري بين الملك والشحاذ (دريد لحام). هناك بعض التعديلات الطفيفة التي استجدت في النسخة السينمائية، غير أن الفيلم في بنيته العامة يسعى إلى البناء على «المعمار الرحباني المتقن»، عبر استعارة مفردات وأجواء ومناخات تلك المدرسة العريقة، وهو يسعى إلى استعادة أمجاد الأفلام الغنائية الاستعراضية، عبر الاعتماد على المشهدية البصرية الجذابة، وعلى اللوحات الراقصة التي أدتها فرقة انانا للفنون الشعبية، واللافت أن ثمة بذخاً إنتاجياً يتجلى في الديكورات والأزياء والمجاميع، وجاء هذا كله وفق إيقاع متناغم نجح المخرج في ضبطه. المقارنة المستحيلة... حاتم علي الذي حقق مسلسلات هامة في مجال الدراما التلفزيونية مثل «التغريبة الفلسطينية»، و «صلاح الدين»، و «الملك فاروق»...بدا موفقاً في استثمار قدرات ومواهب الممثلين، وهو يركز جهده في خلق فضاء بصري مدهش يكاد يطغى على تفاصيل الحكاية، الى درجة لم يعد يفكر معها المشاهد في مقارنة أداء ميريام فارس بأداء السيدة فيروز في المسرحية، أو أداء خباز بأداء شمس الدين ...ومع ذلك فإن علي ينصح المتفرج بمتابعة الفيلم «دون التفكير في المسرحية»، ذلك أن المقارنة، إنْ صحّت أصلا، ستكون مجحفة بحق فنانة شابة في موازاة قامة فنية يستحيل مجاراتها كالسيدة فيروز، وينطبق هذا الكلام على أدوار أخرى. وعن الأسباب والمبررات للعودة إلى أفلمة مسرحية يعود تاريخها إلى أربعة عقود، يقول حاتم علي ل «الحياة»: إن تحقيق هذا الفيلم كان حلماً يراود المنتج نادر الاتاسي لسنوات طويلة، فهو بعد أن أنجز ثلاثة أفلام مستوحاة من المسرحيات الغنائية الرحبانية، («سفر برلك»، «بياع الخواتم»، «بنت الحارس») وجد هذا المشروع الرابع بتعثر لأسباب عديدة بينها نشوب الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان، والخلاف المعروف الذي وقع بين عاصي الرحباني وفيروز، فضلا عن عوامل أخرى لها علاقة بواقع الإنتاج السينمائي. لكن الغريب أن هذا الرجل، الذي قدم الكثير للسينما السورية والعربية، لم يترك هذا الحلم إلى أن تحقق أخيراً». ويفسر حاتم علي «هذا الإصرار بأنه ربما هو نوع من الحنين الرومانسي إلى ذكريات الزمن الجميل، ومحاولة لإحياء التجربة مع الرحابنة، أو هو نوع من العناد الفني المنزه عن معادلة الربح والخاسرة السائدة في عالم الإنتاج السينمائي». ويتابع علي «علاقتي بالمشروع بدأ قبل نحو سنة حينما أرسل الي الراحل منصور الرحباني السيناريو الذي كتبه بالتعاون مع غدي، وقد اضطر منصور إلى كتابة السيناريو بنفسه بعد محاولات عديدة من قبل كتاب السيناريو باءت جميعها بالفشل، إذ لم تلبِ أية معالجة سينمائية للمسرحية الرؤية الفنية لمنصور أو للاتاسي. عندما اطلعت على السيناريو وجدت فيه أشياء جذبتني كمخرج، منها أن هذا الفيلم ينتمي إلى النوع السينمائي الغنائي الذي كاد أن يغيب عن السينما العربية، ورأيت فيه فسحة من الخيال، ومجالا لمقاربة نص مختلف عما هو سائد، فهو نص ينتمي إلى الماضي الفني الذي نشأنا عليه، وأنا، على المستوى الشخصي، معجب بالتجربة الرحبانية، وبقدرة هذه المدرسة على الإبداع والابتكار، وصوغ شخصيات بسيطة ومحببة، ولها ملامح وسلوكيات تكاد تكون خاصة بهذه المدرسة، وكذلك التنوع في هذه الأعمال التي تتحدث عن الحب والوطن والطفولة والطبيعة، بل عن الحياة بمختلف تلويناتها وتشعباتها. واعتقدتُ أن في الإمكان تحميل هذه الحكاية البسيطة بعض الرسائل، ومحاولة عصرنتها كي يلائم مزاج المتلقي في الوقت الحاضر. لكن، إلى أي مدى تحقق ذاك؟ الجواب على هذا السؤال مرهون بالتجربة نفسها، وهي تجربة شديدة الخصوصية، وذات سمات فنية مغايرة». ..والحرية المستحيلة ويعترف حاتم علي بأنه لم يكن يملك الحرية الكاملة في «نقل السيناريو من مكان إلى مكان آخر، فضلا عن وجود عقبات أخرى تمثلت في الإمكانات التقنية الهائلة التي يتطلبها هذا النوع من الأعمال، وكذلك سقف الإنتاج السينمائي العربي المحدود، والمحكوم بموازنات تكاد تكون متقاربة دون مراعاة للاختلافات بين هذا الفيلم أو ذاك، وهي اختلافات تفرض، بالضرورة، ظروفاً إنتاجية متباينة. فالسينما الغنائية الاستعراضية تتطلب إمكانات مالية ضخمة، وكانت لدي طموحات نحو «سخاء إنتاجي أكبر»، بيد أن الفيلم مال إلى البساطة. أنا مدرك بأننا نقدم فيلماً يموله القطاع الخاص، وهذا القطاع معروف عنه سعيه نحو الربح السريع، والتركيز على ما يلائم شباك التذاكر دون أية اعتبارات أخرى، وأنا اشدد هنا بأنني لا اقلل، مطلقاً، من التسهيلات، والامكانات الضخمة التي وفرها الاتاسي، ومتابعته الحثيثة وحرصه الشديد كي يخرج الفيلم بالمستوى الملائم، لكنني أتحدث في شكل عام، بل وأدعو القطاع الخاص إلى تحقيق تجارب مماثلة، ففي وسع هذا القطاع أن يلعب دوراً هاماً في دفع عجلة الإنتاج السينمائي السوري نحو الأمام كماً ونوعاً». ورداً على سؤال حول السبب الذي دفعه إلى مراعاة المنتج والسيناريست على رغم كونه معروفاً بأنه أشبه ب «ديكتاتور» في ما يتعلق بالنواحي الفنية في أعماله؟ يرد حاتم علي: «كانت هناك ظروف خاصة جعلتني أتعامل بمرونة وسعة صدر، فأنت أمام منتج له تاريخ سينمائي عريق ومشرق، مثل نادر الاتاسي، وكذلك أنت إزاء سلطة معنوية طاغية هي سلطة العائلة الرحبانية المتمثلة هنا بمنصور الرحباني، والظروف الصحية التي كان يمر بها. والواقع أن أي مخرج يحتاج إلى قدرات استثنائية حتى يتمكن من مقارعة الرحابنة، أو يعارض رأياً للأتاسي. قد لا يصح مثل هذا الكلام، لكن لا بد من التأكيد بأن الجانب الإنساني، والوجداني لعب دوراً كبيراً في طريقة تنفيذ هذا المشروع، وكنت مرناً في التعامل مع المنتج والسيناريست نظراً لخصوصية التجربة. على رغم هذه الظروف الخاصة فأنا سعيد، وافتخر بأنني أخرجت هذا الفيلم». ويقر علي بأن «إسناد الدور الذي أدّته السيدة فيروز إلى ميريام فارس كان نوعاً من التحدي، وكذلك دور الملك الذي أداه جورج خباز بدلا من نصري شمس الدين في المسرحية. لكن، منذ البداية، قررت أن أتحرر من مثل هذه المقارنات على اعتبار أن الفيلم السينمائي يختلف في بنيته ومعالجته عن المسرح، فالفيلم يستثمر الحكاية ليقدم قراءته الخاصة. أنا اشتغلت على الفيلم بعيداً من سطوة المسرحية، وأدعو المشاهد، كذلك، إلى رؤية الفيلم من هذه الزاوية، أي من دون أن يصطحب معه المسرحية إلى قاعة العرض». وينفي حاتم علي الإشاعات التي أفادت بأن السيدة فيروز كانت قد اعترضت على أن تقوم ميريام فارس بتجسيد دورها في المسرحية، معتبراً أن «فيروز تعي تماماً هذه المسائل الفنية، والأمر، في النهاية، لا يخضع لمنطق المقارنات»، مؤكداً أن «لا أحد في مقدوره المساس بالمكانة المرموقة للسيدة فيروز في عالم الفن، وفي ذاكرة الناس». ورداً على سؤال، يعرب حاتم علي عن اعتقاده أن «السينما هي المكان الأنسب لتقديم هذه المسرحية الغنائية، إذ لا يمكن تقديمها عبر دراما تلفزيونية في حلقات منفصلة»، وزاد أن «الفيلم جاء، في الأساس، استكمالا لمشروع قديم تمثل في تحويل عدد من مسرحيات الرحابنة الغنائية إلى السينما، وكان هذا الفيلم هو المحطة الرابعة، والأخيرة التي وصلها الاتاسي بعد تصميم استثنائي». لماذا استثنائي؟ يقر علي بأن «انجاز هذا الفيلم، بعد تعثره لسنوات طويلة، يعتبر مغامرة على صعيد الإنتاج، لا سيما وان الصناعة السينمائية، بالمعنى التقليدي، غير موجودة في سورية، كما أن عادة الذهاب إلى صالة العرض صارت أمراً نادراً، ومن هنا فإن إنتاج أي فيلم سينمائي يعتبر مغامرة، فما بالك بإحياء مشروع عمره عقود. في السينما المصرية الأمر مختلف ذلك أن السوق المحلية الداخلية مؤهلة لتأمين إيرادات عالية، أما إنتاج فيلم في سوريا أو لبنان فيعد مغامرة بالنظر إلى الدور المحدود للسوق المحلي». وينظر علي إلى هذه التجربة ضمن مساره الفني بكثير من التقدير، فهو على رغم تقديمه لعدد من الأعمال الدرامية اللافتة، كانت عينه، كما يقول، «على السينما»، وهو يرى أن «إتاحة الفرصة لتقديم فيلم سينمائي تعد فرصة نادرة للمخرج السوري، «لذلك تمسكتُ بهذا المشروع بمعزل عن النتائج، وظروف التجربة، خصوصاً وأن الفيلم من إنتاج القطاع الخاص لا المؤسسة العامة للسينما. من هنا لا بد من القول إنه على رغم ما يقال من أن هذا القطاع يخضع لمزاج الجمهور، ولشباك التذاكر، وللمبدأ التجاري فإنه لا يفتقر إلى المقومات الفنية المقبولة، ومن هنا كانت حماستي شديدة، وكان هناك قلق أيضاً، وتزامن إنتاج هذا الفيلم مع فيلم (الليل الطويل) الذي أخرجه وأنتجه هيثم حقي، ونأمل أن يشكل هذان الفيلمان المنتميان إلى القطاع الخاص بداية لحراك سينمائي حقيقي، مطلوب ومنتظر».