الاضافة الوحيدة التي زادها برنامج «لول» التلفزيوني الى أشباهه من البرامج الكوميدية اللبنانية، هي تحطيمه جدار الابتذال والاسفاف. فالبرنامج الذي تعرضه محطة «اورانج تي في» اللبنانية التي يملكها ويشرف عليها «التيار الوطني الحر»، يتشارك مع برامج أخرى في العداء للفلسطينيين والسوريين والاستعلاء على العرب الآخرين، والموقف العنصري من خدم المنازل من الجنسيات الآسيوية والأفريقية المختلفة. وتفوق «لول» نوعياً على البرامج المشابهة (إذ لا منافس له بحسب معديه ومقدميه، ولا فخر) بنقله لغة السوقة الى بيوت المشاهدين، حتى ليتفقد الواحد من الجمهور مجلسه ليتأكد إذا كان انتقل من دون ان يدري ويشعر من بيته الى ما هو أفدح بكثير من علب الليل. نكات تُسمي العملية الجنسية وتشرحها شرحا مشهدياً «غرافيكياً» باستخدام الايدي والاشارات والغمز من قنوات طوائف ومناطق بالتندر على لهجات ابنائها، الذين يُظهرهم المشاركون كآيات في الغباء والغفلة، ليضافوا إلى العرب والأجانب الذين يستظرف ضيوف البرنامج تقليدهم تقليداً مهيناً بل معيباً. وينبغي القول، سعياً إلى الإنصاف، إن حلقات البرنامج ليست كلها على سوية واحدة. فتلك التي بثت في بداياته، كان الخفر وقدر من التهذيب، يظهران على المشاركين فيها، ثم أفلت شيء ما فكرّت سبحة البذاءة الى أن وجهت الى البرنامج جملة من الانتقادات التي قد تساهم في كبح هذا الفيضان. كل هذا يجري بذريعة أن الناس تعبت من السياسة والسياسيين العابسين الذين احتلوا الشاشات في الأعوام الماضية وأن ما يحتاج اليه اللبناني هو الضحك من القلب ومن دون رقيب. جانبان يستحقان قولاً في هذه الظاهرة. الأول هو أن معدي البرنامج الذين لخصوا «فلسفتهم» في مقابلات اجريت معهم، بأنها نقل اجواء السهرات الضاحكة الى المشاهد المتعطش الى الخروج من أجواء الأزمات المتنوعة التي يعيش، لم يفلحوا سوى في تحطيم محرم (تابو) واحد هو ذلك المتعلق بالتقليل من البذاءة اللفظية الى الحد الأقصى في وسائل الإعلام. بل إن النكات التي تناولت رجال الدين والتي سعى بعض خصوم البرنامج الى اعتبارها مدخلا ملائماً للطعن في أخلاقية، أو بالأحرى لا أخلاقية، «لول»، لا تمثل تجاوزاً للمحرم الديني، بل تقاربه مقاربة ساذجة باعتباره غير قابل للتناول سوى من باب السخرية من رجاله (وخصوصاً من المسيحيين من بينهم). وهذا الأسلوب هو الأرثّ والأكثر سطحية في نقد الدين، وهو على كل حال ما لم يزعم اصحاب البرنامج التنطح إليه. وليس صدفة أن تحرص وسائل الإعلام العام في بلاد العالم أو ما يسمى «التيار الرئيس»، على عدم بث كل ما يخدش الحياء أو يشكل تجاوزاً لمحرمات أو انتهاكاً لخصوصيات، حيث يُترك هذا النوع من البرامج لقنوات معينة مشفرة أو متخصصة، أو على الأقل لساعات متأخرة من الليل مع استباق العرض بتنبيهات وتحذيرات. فما يصلح لجمهور ما بعد منتصف الليل ليس بالضرورة مقبولاً من الفئات التي تشاهد برامج الساعة الثامنة صباحاً. وهذه ممارسة تتمسك بها أكثر المجتمعات تحرراً وأعرقها تراثاً في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب. الجانب الثاني هو ذلك المتعلق بالجهة التي ترعى البرنامج. فما من عاقل يصدق أن «الجرأة» (وهي اسم آخر لاستعراض الكلمات النابية) هبطت على الثنائي الذي يتولى تقديم «لول» من دون إعداد غير تحريض الضيوف على قول كل ما في جعبهم من نكات، هبطت من دون أن تخضع لقراءة أبعد نظراً بقليل من نظر المقدمين. هنا بالذات يمكن الحديث عن خلفية أو خصوصية المحطة. ولن نبتعد كثيراً عن صلب الموضوع اذا ذكّرنا أن «التيار الوطني الحر» هو صاحب الخطاب الأشد شوفينية في مسألة اللاجئين الفلسطينيين وأن ما يقوله مسؤولوه في سياق تحذيرهم من التوطين الذي يسبغون عليه صفات تجعله أقرب الى حوادث الدينونة، والدفاع – في الوقت عينه- عن الاستمرار في حرمان المدنيين الفلسطينيين المقيمين في لبنان من الحد الأدنى من الحقوق المدنية، هو خطاب يكفي لو صدر عن أي جهة سياسية أخرى ليثير عواصف من الإحتجاج لا تهدأ. لكن حلفاء التيار وخصوصاً أولئك الساعين الى تحرير فلسطين من النهر الى البحر، يبدون وكأن في آذانهم وقراً. يصح الأمر ذاته في عدد كبير من المواقف والقضايا، فيتغاضى الراعي الحقيقي للتيار الوطني عن رعونة أفعال التيار وأقواله بفضل «التفاهم» الذي أنقذ، في زعمهم، لبنان. فالغطاء السياسي المسيحي الذي وفره التيار الوطني لسياسات ممانعة ومقاومة ولأيام مجيدة كادت جميعا أن تقضي على ما تبقى من أشكال حياة في لبنان، هذا الغطاء يكفي لأن يغض أصحاب السياسات تلك، النظر عن برنامج تلفزيوني بذيء أو عن شتائم توجه الى الفلسطينيين والسوريين وغيرهم، بكل محبة وحسن نية على ما يبدو. والتيار الوطني، بفعله هذا، يمزح في ما لا يحتمل المزاح ويساهم عبر إضحاك الناس – على ما يرى - في تعميق المتاريس والحواجز بين ابناء بلد ومقيمين فيه من جهة، وبين الفئات والطوائف المختلفة في البلد المذكور. مقدمو «لول» لا يعنيهم من هذا كله سوى حرية الضحك التي تعلو على غيرها من الحريات. ولعل الأشد بؤساً من البرنامج ذاته كان اسلوب تعامل هيئات «المجتمع المدني» وتلك التي تمثل السلطات الرسمية مع البرنامج، حيث ظهر العجز عن قول جملة واحدة مفيدة تتجاوز الحض على التزام مكارم الأخلاق. وكي لا يظهر أن هذا البرنامج، بكل ضحالة إعداده ومضمونه، يحدد مستقبل اللبنانيين، في حين أنه لا يعدو ساعةً اسبوعية من الابتذال، يتعين القول إن الحريات الاعلامية التي يتغنى بها اللبنانيون، لا تشتغل في فراغ بل هي آليات تنتجها موازين قوى اجتماعية وسياسية. وهنا مدخل جديد الى النظر في ما يعنيه الاعلام.