على الرغم من قوله إن القصيدة ليست أنثى ولا ذكراً إلا أن مطاردته لها من جبال فيفاء إلى الرياض ثم إلى أكثر من صقع من أصقاع العالم واشتغاله بكتابتها ثم نقدها أخيراً يؤكد أن القصيدة تلك الأنثى التي طالما عشقها ضيف حورانا الشاعر الناقد الأستاذ الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيْفي، وإن لم يصرح بذلك العشق. - رحلة طويلة قطعتها كانت الكلمة فيها رفيق درب مخلصاً وجواداً أصيلاً لم يجمح بك يوماً؟ فما أهم المحطات التي وصلت إليها بالكلمة، أو وصلت بك إليها الكلمة؟ * الكلمة هي الإنسان. فلا محطّات لسفرها فيه أو سفره فيها. في البدء كانت الكلمة، وفي المنتهى ستكون. بدأتُ شاعرًا وانتهيتُ شاعرًا، وبينهما رحلةٌ علميّة وكتابيّة ونقديّة. أسهمتُ بشِعري محليًّا وعربيًّا. وأستطيع القول إنها قد تفتحت مشاعري الإبداعية على يدي أُمّي فاطمة، وذلك في المرحلة الابتدائيّة، وقد كانت متعلّمة، وهي مدرستي الأُولى. فكانت تشجعني على الكتابة، وتمتدح أسلوبي، وكنتُ أكتب لها أحيانًا بعض الرسائل إلى أقاربها. ثم كان خالي، سلمان، رحمه الله، وهو شاعر، وأستاذ في الأدب، فشجّعني في المرحلة الثانويّة على إعلان ما أكتب. - لك أحاديث طويلة في النقد والشعر كيف تعيش الالتزام والفوضى في حالة واحدة؟ أم أنك قررت ارتداء عباءة الناقد عندما استشعرت افتقار الساحة إلى نقاد؟ * كما قلتُ، ولدتُ شاعرًا قبل أن أخوض قيود الالتزام والنقد. ومجال النقد هو مجالي التخصِّصيّ العلميّ، وليس ارتداء شيء لاستشعار الافتقار إليه، كما ورد في السؤال. والواقع، أن الحياة كلّها التزامٌ وفوضى، ومزيج من هذا وذاك. والساحة لا تفتقر إلى النقاد، بمقدار ما تفتقر- في رأيي- إلى النقد الجادّ الذي يسعى إلى النهوض بمشروعات نقديّة تؤسّس أو تستكمل، ولا تكتفي بالحوم حول القضايا والنصوص فقط. - ما الذي تعنيه لك القصيدة، وهل لديك طقوس معينة لكتابتها؟ أم أنك تصطحبها معك أينما ذهبت؟ * القصيدة هي الروح، وإذا كانت الروح من أمر ربي، فإن القصيدة من أمر شيطان الشِّعر! وهو شيطان مجازيّ، بطبيعة الحال. وبما أنه شيطان، وإن مجازًا، فإنه يزور ولا يُزار. فقد يأتيني ببعض القصائد حتى في المنام. ومن ذلك قصيدتي "قيامة المتنبي"، إذ رأيت المتنبي في ما يرى النائم وهو يُنشدني ويُحاورني. - إلى أي مدى نحن الآن في حاجة إلى عودة الكلمة لنسترد بها أنفسنا من ربقة الاستلاب في اللهاث وراء هذا الضجيج الذي يعيشه العالم ونعيشه معه؟ * إن الشِّعر هو إكسير الحياة اللغويّة والحياة الإنسانيّة. ومَن يقول بموت الشِّعر، فهو يقول بموت الإنسان. ومن يراه واقعًا، فهو يرى فناء العالم في مادته، غير أنه لا يرى أن وراء كلّ فناءٍ بِذار ولادة. هذا إنْ سلّمنا بأن الشِّعر في تراجعٍ اليوم. ذلك أن علينا أن لا ننخدع بواقع التلقّي الحديث، فنعدّ غياب المنابر الشِّعريّة التقليديّة غيابًا للشِّعر. ولا شكّ أن هناك من يزعجه الشِّعر؛ لأنه يعيق بعض مشاريع التخدير والاستلاب؛ من حيث هو موقظٌ وباعثٌ وثورة. - أدب المرأة حقيقة أم فقاعة بنيت على أثر انفجارها كل تلك الأحاديث؟ * أدب المرأة حقيقة. بل إن أدب الرجل ليس سوى أكؤسٍ من رحيق المرأة، سواءً أكانت أُمًّا أم حبيبةً أو ملهِمة. غير أن المرأة عانت عبر التاريخ الذكوريّ من تغييبها وإنكارها ونفي كلماتها. فكم من الشاعرات العربيّات- على سبيل المثال- رفض المجتمع الأدبيّ، وقبله المجتمع العامّ، أصواتهنّ، فغابت عن التدوين والدرس. وحكاية الخنساء معروفة. الخنساء التي كان الرسول محمّد، عليه السلام، يقدِّم شِعرها على الشِّعر كلّه. فقد كان يُعجبُه شِعْرُها، ويستنشدُها، ويقول: هِيْهِ يا خُناسُ، ويومئ بيده. بل رُوي أنه كان يُقدِّمها على امرئ القيس، فقد سأل عديًّا بن حاتم، لمّا قَدِم عليه، فقال عديٌّ: "فينا أشعر الناس، وأسخى الناس، وأفرس الناس، وذَكَر امرؤ القيس، وحاتم بن سعد، وعمرو بن معديكرب"، فاعترض الرسول، قائلاً: "ليس كما قلتَ يا عديّ، أمّا أشعر الناس، فالخَنْساء بنت عمرو، وأمّا أسخى الناس فمحمّد... وأمّا أفرس الناس فعليّ." وبذا جعلها ثالثة ثلاثة. وتلك مكانة للمرأة تسمو على أيّ منصبٍ أدبيّ، مقرونة بمحمّد وعليّ. ولكن السؤال: هل كانت النظرة المحمّديّة تطابق نظرة القبائل العربيّة إلى المرأة، أو نظرة الإسلام التاريخيّ إليها؟! المعايير الفُحُوليَّة لم تكن لتستوعب المختلف "الخنساويّ". وفي تراثنا الأدبيّ لا نكاد نجد مؤلّفات للنساء، أو حول النساء، سوى كتابين أو ثلاثة، أشهرها "بلاغات النساء" لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر، المعروف بابن طيفور الخراساني، (-280ه= 893م). كما أن المرأة حتى في الأندلس- على الرغم من أنها كانت تحظى من الحريّة بما لا تحظى به المرأة المشرقيّة- فإن ما سُجّل من شِعرها لا يُعدّ شيئًا قياسًا إلى شعر الرجال. وهذا الواقع لا شكّ أنه مؤثّر نفسيًّا وإبداعيًّا في نتاج المرأة؛ من حيث ظلّ محبِطًا لها، وكاسرًا لقلمها، وكابتًا لمشاعرها. - بعض النقاد ضد المرأة تماما ولو كانت مبدعة وبعضهم معها تماماً فقط لأنها امرأة ولو كانت محدودة الموهبة وربما عديمة الموهبة؟ من الذي يدفع ثمن هذا التناقض في تقديركم؛ الوسط الثقافي أم المواهب الحقيقية أم المرأة نفسها؟ وكيف؟ * كلّ أولئك يدفع ثمن هذا التناقض المشار إليه في السؤال. فحينما لا تكتسب المرأة أهميتها إلاّ لكونها امرأة، ولا تُحرم من تلك الأهميّة إلاّ لكونها امرأةً كذلك، فإنها تستحيل عندئذٍ إلى سلعة، تُستغلّ للعرض تارةً وتصادَر تارةً أخرى. وهو موقف يجب على المرأة نفسها أن تعيه، فلا تستسلم للمصادرة، ولا تفرح بمن يستغلّون اسمها أو صورتها أو معناها، ذاتيًّا أو إعلاميًّا. فالمرأة قيمة وجوديّة. - ثم ما الذي حدث وقد كانت المرأة في الماضي تكتب بأسماء رجال مستعارة حتى ينشر لها؟ * كانت المرأة في الماضي أعلى كرامة من المرأة في الحاضر، للأسف الشديد. وأعني بالحاضر قُبيل الراهن من السنوات، إذ صار مجرّد اسم المرأة عورة، فظهرت الأسماء المستعارة في الصحافة و"الإنترنت"، وربما كان بعضها لرجال. أمّا حين يكون ذلك الاسم النسويّ ذا إسهام في الشِّعر والأدب، فإن القبيلة العربيّة تُنكره، وتستنكف منه. ومن يُقارن ذلك بماضي التراث العربيّ يُدرك أن جاهليّة العرب الأولى كانت أرحب من جاهليّات العرب في قرونهم المتأخّرة، ذكوريّةً واشمئزازًا من حضور المرأة. ومن شاء فليقرأ وليقارن حول ملكات العرب، أو حول النساء العربيّات قبل الإسلام، وما كانت لهنّ من مكانات سياسيّة واجتماعيّة وأدبيّة. ليقرأ حول شخصيّة هند بنت عُتبة، مثلاً، التي كانت أقوى من شخصيّة أبي سفيان نفسه، سيّد قريش، صوتًا وتحكُّمًا وإدارة. ولن أتحدّث عن نماذج مشهورة في صدر الإسلام الأوّل، على رأسها السيّدة خديجة بنت خويلد، وعائشة بنت أبي بكر، وغيرهما كثير. وهو ما يُظهر المفارقة الثقافيّة في انتكاسةً مخزية حدثت بعد ذلك تحت شعارات كثيرة. - بعد عقود لم يسمع خلالها الواقع الأدبي سوى صوت الرجل، تحدث طوالها حتى بلسان المرأة، ترى آن الأوان لتتحدث المرأة عن نفسها؟ وترى أحسنت المرأة العربية خطابها الأدبي، أم سلكت الطريق الخطأ؟ * علينا أن نذكر أن تعليم المرأة في ذاته كان محرّمًا، وظلّت فكرة وأد المرأة في خطاب العصور الإسلاميّة فكرة متداولة. ونذكر هنا موقف شاعرين كبيرين عبّرا عن تلك الثقافة في أوج الحضارة الإسلاميّة، هما البحتري والمعرّي. فالأوّل هو الذي لم يمنعه موقف العزاء في ابنة (محمد بن حميد الطُّوسي) من أن يستنكر عليه الحُزن على بنته، فأخذ يعزّيه بأن "موت البنات لا يستحقّ البكاء"، والبكاء عليهنّ ليس من شِيَم الفِتْيان، مستشهدًا بأسلافه من الجاهليّين، ومنهم (قيس بن عاصم المنقريّ)، الذي كان يئِدُ كلّ بنت تولد له، رغم ضرب العرب المثل به في الحِلْم. بل يذهب البحتري إلى أبعد من مذهب المنقريّ، فيستشهد تارةً بالقرآن، حيث قال الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، (الكهف:46)- ولم يقل "البنات"، حسب احتجاج الفقيه البحتريّ!- وتارة أخرى يُشرك الأنبياء في فكرته الجاهليّة، وثالثة يستشهد بالأسطورة- غير الإسلاميّة- عن ارتكاب الخطيئة وإخراج حواء لآدم من الجنة. فهذا هو فكرنا العربيّ، وموقفه العنصريّ من المرأة، وتلك هي الجذور. فما يحدث اليوم لم يأت من فراغ. ومن ثم فلا صوت للمرأة، ولا اعتراف بإنسانيّتها. أمّا وقد أخذت المرأة الآن بعض مكانها في الخطاب الأدبيّ، ففي رأيي أن من واجبها أن لا تخضع للتدجين أو للتدجين المضادّ. وأعني أن لا تبقى رهينة الفكر الذكوريّ، الذي لا ينظر إلى المجتمع إلاّ بعينٍ عوراء، ولا تقع كذلك في تدجينٍ نقيض، فتظلّ همومها تحوم حول شؤونها الخاصّة، وتبقى تنوح وتستعدي على الرجل، بحُجّة التحرّر من ربقته. وإنما عليها أن تكون أنضج من ذلك، بأن تدرك أنها شريك في تلك الأزمة المزمنة؛ فهي الأُمّ والمربّية، ومن هناك فإن الرجل ضحيّةٌ مثلها، وربما كان ضحيّةً لها، لا عدوًّا. هو ضحيّة فكر قَبَليّ، أو مؤدلج. كما أن عليها أن تُبصر أن الخطاب المتشنّج المتطرّف في الاتجاه النقيض لن يكون سبيلها إلى استرداد حقوقها، بل قد يشوّهها، ويعطي الذريعة ضدّها لمن ما زال في قلوبهم مرض للحيلولة دون تقدّمها. ينبغي لها- من وجهة نظري- أن تُثبت أهليتها ومنزلتها بالعمل الجادّ والنتاج الفائق، الذي يُكسبها الاحترام والتقدير، بعيدًا عن المزايدات واستثارة الزوابع. ذلك أنني ألحظ أن معظم الخطاب النسويّ العربيّ مستهلك في الضجيج، وفي الصراخ، وفي النعيب الذي لا يقدّم عن المرأة إلاّ صورة صوتيّة شوهاء، شكّاءةً بكّاءةً نوّاحةً صخّابةً. - القصيدة أنثى، فما الذي تهمس به في أذن أنثاك، وما الذي تهمس به في أذنك؟ * القصيدة لا أنثى ولا ذكر. ليس للقصيدة جنس محدّد. فهي تتلوّن، وتتحوّل، وتتبدّل، كالطبيعة. وهي في علاقتها بالشاعر حياته، بكلّ ألوانها وأصواتها.