كانت اللغة العربية لها جلالها في غابر الزمان، وتحديداً في العصر الجاهلي والحقبة النبوية، فقد كانت متماسكة الأركان آنذاك، لا تعج بدخيل الألفاظ والمصطلحات الأعجمية، فتُفقدها أصالتها، كما هو حاصل اليوم وواقعه، الشاهد على إخفاق المعربين واللسانيين في إيجاد مرادفات معقولات للألفاظ الأعجمية الدخيلة التي تغزو العربية ليل نهار من جراء التقدم العلمي للأعاجم علينا في شتى النواحي والعلوم، مما جعلهم يفرضون علينا علومهم وابتكاراتهم واكتشافاتهم بلسانهم، وما كان ذلك لضعف في العربية، وأنما لتخلف أهلها عن ركب الحضارة وقافلة التطور، مما جعل اللسان العربي ينظر إلى أقرانه من الألسن نظرة المغلوب للظافر، بعد أن كانت العربية عروس اللغات وصاحبة الكعب الأعلى في زمن المتقدمين من المسلمين على سائر لغات البسيطة، وذلك مالم يدركه أهلها من المسلمين المتأخرين، فأهملوا شأنها على عظم قدره الذي خصها به الله في محكم تنزيله المسطر بها، فأبهر به الألباب وأعجز به البلغاء والفصحاء من الشعراء الصناديد أيما إعجاز، لما لها من إيقاع وجرس متميزين، ولما تنفرد به حروفها من خصائص قوية كالجهر والهمس والترقيق والتفخيم والمد وغيرها، مما يُطرب أُذن السامع، فتستلذ بسماعها وتتفاعل معها. وكلما تقدم الزمن، كلما ضعفت العربية للأسف الشديد لدى متكلميها، وتلك مصيبة أخرى كبرى، فترى الشباب يسخرون من المتكلمين بالفصيح، ويتفاخرون بحسن إجادتهم للغات الإفرنج والأعاجم، التي لا تملك معشار ما تحوزه العربية من تراكيب ومرادفات للمصطلح الواحد، وللتدليل على ذلك، أنظر لسيل المرادفات الخاصة بكلمة "أسد" فقط في العربية، وقارن هذا السيل الغزير من المرادفات للكلمة سالفة البيان بما يقابله من مرادفات لذات الكلمة في لغة الإنجليز، وسترى عجباً، صدقني، فكلمة "أسد" في العربية لها وحدها ما يزيد عن ألفي مرادف، بينما في الإنجليزية المحصلة "صفر"، مما يتضح معه وبجلاء شديد، فقر الإنجليزية لغوياً مقارنة بالعربية. ولكن هل توقف الأمر عند هذا الحد؟…إطلاقاً، فالعربية تتربع على عرش لغات الأرض في عدد الكلمات، وذلك بحسب ما جاء على لسان موسوعة الإنفوجرافيك الأجنبية، والحق ما شهد به الأعداء، فقد ذكرت الأخيرة – بعد البحث المُضني – أن العربية تتصدر قائمة لغات العالم من حيث تعداد الكلمات والبالغ 12,302,912 كلمة (غير مكررة) – إنه إعجاز بكل المقاييس – بينما حلت الإنجليزية في المرتبة الثانية بواقع 600،000 كلمة تبعاً لأكبر المعاجم المتوافرة لها، وجاءت الفرنسية ثالثة بواقع 150،000 كلمة أيضاً بحسب أكبر معاجمها، وتذيلت الروسية الترتيب بواقع 130،000 كلمة فقط. وفي ضوء السالف، أرى أننا لا نحتاج إلى إهدار المزيد من الوقت كي نضيعه في معرفة اللغة الأقوى عالمياً من حيث المفردات والتراكيب، فقد قُضي الأمر، ورُفعت الأقلام وجفت الصُحف، وظهرت عبقرية العربية وتفرُدها. واللغة بشكل عام، هي الترسانة الثقافية التي تحمي أمتها وتبني كيانها، ولا أدل على ذلك من كلمات وأقوال نوابغ التاريخ والأدب في هذا الصدد، فقد ذكر علامة اللغة العربية، مصطفى صادق الرافعي، يقول "إن اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، وأنه كيفما قلبت أمر اللغة – من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها – وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها". وقال الناقد الأدبي الشهير كارل فوسلر "إن اللغة القومية وطن روحي، يُؤوي من حُرم وطنه على الأرض". وقال فيلسوف الألمان فيخته "اللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً خاضغاً لقوانين، إنها الرابطة الحقيقية بين عالم الأجسام وعالم الأذهان". وأخيراً وليس آخراً، فقد صدر بيان من مجلس الثورة الفرنسية أبان اندلاعها مؤداه "أيها المواطنون…ليدفع كُلاً منكم تسابق مقدس للقضاء على اللهجات في جميع أقطار فرنسا لأن تلك اللهجات رواسب من بقايا عهود الإقطاع والإستعباد". وبعد كافة هذه البراهين والأدلة على أهمية اللغة القومية، هل لا يزال هناك من يحاول التنصل والإنسلاخ من الاهتمام بلغته الأم وبذل المساعي الحثيثة من أجل رفعتها؟…أظنه لا يستطيع. بقلم/ أسامة بن محمد أبو هاشم.