بلدتي نوري جنة الطفولة، كما اسميها ،اتاحت لنا أوقاتاً ممتعة من اللعب والمرح سواء على شاطئ النيل أو تحت ظلالها الوارفة.غير أن الانتقال منها إلى بلاد أخرى قد يجر جراحات وندوباً قد تبقى إلى ما شاء الله. ذكرياتي وذكرياتك عظات وعبر ومصدر إلهام لآخرين. إذن دعوني أرتد طفلاً في مدرسة الأبيض الغربية الأولية (الابتدائية) في ولاية شمال كردفان لنتبين كيف أن بعض الأحداث ترتبط ببعضها البعض دون حتى أن نشعر بذلك في حينها وكيف أن التربية يجب أن تقدم على التعليم. اعترف أنني كنت فوضوياً (ولكن بصورة خلاقة) وعندما جئت من قريتي في الشمال إلى مدينة الأبيض في الوسط اعتليت مسرح مدرستنا الأولية في إحدى مناسباتها أو أنشطتها اللاصفية وغنيت لفنان شعبي ولم أدرك في ذلك الوقت إن كان صوتي مناسباً أو أن الأغنية التي أديتها يستسيغها مجتمع المدينة وكانت تلك آخر تجاربي في هذا المجال لكن ما تعرضت له في مدرستي الأولية شكل علامة فارقة في حياتي فقد كنا يوماً من أيام السنة النهائية في انتظار مدرس المادة وكان هو ناظر المدرسة واسمه موسى (رحمة الله عليه حياً وميتاً) وقد تأخر كثيراً عن الحصة .. ولعبنا وكثر (الهرج والمرج) وكنت وجاري نلف الورق على شكل كرة ونتبادلها برؤوسنا ودخل الناظر وناداني مباشرة: إدريس أقيف(قف) ووقفت وسألني: ماذا فعلت؟ سكت ولم أرد عليه.. فاصبح يردد السؤال ويعد عشرة ..عشرين .. مائة. ثم أمر بإحضار (العصي) والسياط وتلقفني أربعة تلاميذ غلاظ شداد من يدي ورجلي وبدأ الجلد والصراخ وتجمع المدرسون وغيرهم حتى انقطع نفس الناظر(مدير المدرسة) وسأل تلاميذ الفصل: كم؟ فقالوا له 75 (جلدة) إلا تلميذاً واحداً قال 80 جلدة (عمل فيما بعد ضابطاً بالقوات المسلحة).. طلب منه الناظر الخروج بحجة أنه (يحامي لي) أي أن ما قاله في صالحي. وجلد صاحبي أيضاً حتى تورمنا من آثار الضرب وتشاورنا واستقر رأينا على أن لا نشتكي لأهلنا حتى لا نتلقى المزيد من الضرب ولكن ننتقم بأنفسنا من هذا الناظر. وبعد أن أدينا امتحان نهاية المرحلة الأولية تجمعنا وانطلقنا إلى منزل الناظر موسى كنا نريد رجمه بالحجارة .. طرقنا الباب عدة مرات حتى خرجت امرأة من الجيران وأخبرتنا أن موسى سافر ولا يوجد أحد بالمنزل ورجعنا دون أن ندرك فداحة ما كنا مقدمين عليه. نجحت وتم قبولي في مدرسة الأبيض الأهلية الوسطى الحكومية (هكذا اسمها) وقد شيدت بالحجر وكان جرس المدرسة كهربائياً (ولا أظن أن مدرسة في السودان في ذلك الوقت كان جرسها بالكهرباء). كان (أبو) فصلنا (مرشد الفصل) الأستاذ الكناني أستاذاً للغة الإنجليزية ولديه أقرباء في حينا وفي ذات يوم كتبت موضوعاً في جريدة المدرسة الحائطية بعنوان (الجلد لا يجدي فتيلاً) وكان أحد زملائي واسمه الصادق بخيت رساماً مبدعاً زين الموضوع برسمه،أستاذاً يجلد تلميذاً،وعندما خرجت في (فسحة الفطور) فوجئت بمجموعة من الأساتذة ينادونني ،سألوني عن الجلد في المدرسة ومن يقف وراء كتابة موضوعي بينما استشاط مرشد الفصل غضباً من هذا الموقف وكان شديد الحرج فأخذني من يدي إلى مكتبه واستدعى زميلي الصادق واغلق باب المكتب علينا لينال كل منا خمسة عشر سوطاً أحر من تجرع السم. ومرت الأيام وأصيب مرشد فصلنا باليرقان (الصفراء) ولزم مستشفى الأبيض وكنت استأجر دراجة وأحمل له من أهله الفواكه والملابس. وعندما التحقت بالمدرسة الثانوية في العاصمة الوطنية أم درمان وبعد سنوات انتابني الحنين إلى مدينة الأبيض فسافرت إليها وكان حظي أن قابلت أستاذي الكناني صدفة وسألني عن حالي وشدتني عيناه كأني أرى دمعاً يترقرق فيهما وهو يقول لي:لقد انتقمت منكم ..ابتسمت وبكيت في صمت. أهي المائة جلدة التي دفعتني بعد سنين عدة لأكتب عن الجلد في المدارس؟ ...هذه الذكرى المؤلمة في أي قاع نسيان كانت؟.