مفقود: غادر كارلوس ميشال حبيب منزله في بناية أيوب في الأشرفية يوم الجمعة الماضي ولم يعد. عمره 22 سنة، يرتدي كنزة صفراء وقميصاً أصفر وبنطلوناً لون كريم. يرجى ممن يعرف عنه شيئاً الاتصال بالرقم 320496 أو 324773. مفقودتان: غادرت السيدة يوتا الحوارنة (30 عاماً) ومعها ابنتها عليا (عامان) منزلهما يوم الخميس الماضي ولم تعودا. يرجى ممن يعلم عنهما شيئاً الاتصال بأحد الرقمين 310050 أو 301574. مفقودة: غادرت الشابة لينا نسيب طانيوس منزلها يوم الثلثاء الماضي ولم تعد. عمرها 19 عاماً، ترتدي فستاناً أزرق وكنزة بيضاء. الرجاء ممن يعرف عنها شيئاً الاتصال على الرقم 495371 وله مكافأة. آل حبيب- الطابق الرابع آل حبيب انتقلوا الى بناية أيوب - التي نسمّيها في الحيّ «المبرومة» بسبب شكلها شبه المستدير – أثناء الأسابيع الأولى للحرب. هربوا من منزلهم في البناية التي يملكها موريس حبيب وراء سينما عين الرمانة عندما قصفتها مدافع الشياح ليلاً وأحرقتها. نجوا من الموت لأنهم كانوا نائمين في السينما التي تحولت ملجأ آمناً للأهالي بسبب وجودها تحت الأرض. بدوا قادمين من جهنم بينما ينزلون من سيارة محروقة السقف يتبعها بيك آب محمَّل بأغراضهم. كانوا بين أوائل المهجرين النازحين الى الحيّ. استأجروا شقة على الطابق الرابع. 3 نوم وصالونان وغرفة طعام مع نوافذ خلفية تطلّ على نهر بيروت وخليج الدورة. حين وقعت قنابل على الحيّ سدّوا النوافذ بحجارة الباطون وأكياس الرمل خوفاً من الشظايا. أظلمت الشقة لكن الوجوه الشقراء الباهرة البياض لبنات ميشال حبيب الثلاث، سرعان ما أضاءتها. كنّ طوال تلك الشهور الأولى للحرب فتنة الحيّ بأجسامهن البضّة وزغردتهن العالية ونظراتهن الجريئة،ثم اختفى أخوهن الوحيد –أمير العائلة- وسكتن عن الزقزقة. آل زغلول- الطابق الأرضي «ليس على وجهي!» رفعت يديها وحاولت أن تحمي نفسها. ضربها بيد مسودّة الجلد والأظافر، تشبه مخلباً أكثر مما تشبه يداً بشرية. كأنه يفتح بالوعة بالسلك، تحركت ذراعه بانتظام لا تفسده الكؤوس التي شربها. «راغدة سدّي بوزك!» أنزلت يديها خوفاً من صوته. جربت دفن وجهها في المخدة. لم يخطر في بالها الشاب الجميل الأسود الشعر ابن السمكري الذي كان يتحمم ويفرك يديه بالصابون حتى تتقشر الجلدة السميكة القاتمة ثم يغمس نفسه في الكولونيا وينتظرها في قميص خضراء زاهية أمام باب نادي أبناء نبتون وهي صغيرة، بنت 16 سنة، تكنس وتمسح وتغسل الشبابيك مع خالتها. في الطابق السفلي في بناية أيوب ستمحو الأعوام ذكرياتها. «قبحة!» لسانه السكران لاك الشتيمة. «الجيران!»، قالت. شتم الجيرانَ وأمَّها وأباها. صوته ضاعف قوة قبضته. شعرت بصخرة تسحق كليتها اليمنى. خرج نَفَسُها مبلولاً ساخناً وغطى وجه المخدة الأبيض المغسول بلون أحمر. «الأولاد! الصبي!»، كان هذا خط دفاعها الأخير. شتم أولادها، كأنهم ليسوا أولاده هو أيضاً، وحين ركّز شتائمه على يوسف خافت أن يسمع الصبي اسمه ويحسب أن أباه ينادي عليه فيدخل الى الغرفة. «الباب!» رمقته بعينيْ كلبة جريحة. لطمها على خدها. شمّت رائحة السجق والكبيس. عظمة أذنها طقّت كعظم الدجاج. قضمت لسانها. بلعت دماً. ضربها ونظرتها تتعلق بالباب وتحاول أن تسدّه. اللون الأسود ملأ الغرفة... امتلأ بطنها بقطع الجليد. من وراء الحائط تناهت دعسات على درج البناية. أولاد يتقافزون في المدخل الواسع. بينما الألم يمزق أحشاءها اقتحم نداء الصبي الغرفة. «أمي!» آل الخوري - الطابق الثالث « أنا قوّصت أول رصاصة بالحرب. لا كتائب الشيخ بيار الجميّل ولا أحرار كميل شمعون ولا مخابرات الجيش. بوسطة عين الرمانة، بوسطة مصطفى رضا، أنا عملتها. كان دائماً يشتري مناقيش من فرن عمي على مفرق الشياح، لهذا السبب لم أقتله، لأنني عرفت وجهه. الباقون، ركاب الباص كلهم، أنا أول واحد قوّصهم. أول واحد من الحاجز طلع على الباص أنا. مصطفى رضا، السوّاق، لم يعرف من أكون. لأنني غطيت وجهي. اسكتوا! كانوا يصرخون بهتافات فلسطينية كأنهم على الحدود مع اسرائيل في الجنوب وليسوا في قلب بيروت على طريق عين الرمانة. 13 نيسان 1975. وقت الغداء، أحد، بعد القداس. الطرقات فاضية. بوسطة مثل بوسطات المدارس، جي أم سي بشبابيك مسكاتها زنانير قماش، قديمة وأرضها مثقوبة وكلها قناني وأكياس فاضية وقشر بزر. كانوا راجعين الى مخيم تل الزعتر من احتفال لمنظمة فتح بالطريق الجديدة. لم يسكتوا كي أحكي معهم. اسكتوا! كلاشينكوف روسي بمشط بلغاري «دوبل» ملفوف بالسكوتش تايب. تغمّست بالعرق. أبشع شي قتل الناس بمحل ضيّق. الأصوات والدم. قفزت عن درج البوسطة وتركتهم للباقين حتى يكملوا. كنت جوعان. من ال 22 القتلى قبل وصول سيارات الاسعاف قوّصت بالرأس والصدر أكثر من نصفهم... وولعت الحرب اللبنانية» ( من شهادة نزيل دير الصليب جرجي الخوري في مجلة «الحرية» عدد 16-23 أيار/ مايو 1986 ضمن تحقيق عن مستشفيات الأمراض العقلية في لبنان منشور بمناسبة مرور 90 عاماً على تأسيس مستشفى العصفورية للأمراض العقلية في الحازمية شرق بيروت على يد المرسل السويسري مؤسس ارسالية الفرندز البروتستانتية في برمانا ثيوفيلوس فالديمير). آل العبد- الطابق السادس «المبرومة» التي تحضن شققها معظم شخصيات هذه الرواية كانت في البدء تسمى بناية العبد، لأن بانيها من آل العبد اللبنانيين الذين هاجروا ضمن موجات الهجرة الشامية الى بلاد المكسيك في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ورجع قسم منهم الى بيروت بعد أن أصاب ثروة. أحد هؤلاء قدّم سنة 1933 الى بلدية بيروت الساعة المشهورة ذات البرج الحجري القائمة الى هذا اليوم في ساحة مجلس النواب ( النجمة) والتي تُسمى ساعة البرلمان والعامة تسمّيها ساعة العبد. قريبه الذي بنى في حيّ الأشرفية الراقي عمارة مستديرة عالية على رأس شارع منحدر انحداراً شديداً يفزع العجائز، أخذ رخصة البناء قبل أن تشق البلدية الشارع المذكور. في ذلك الزمن - أربعينات القرن العشرين - كان المكان قليل البيوت كما يحبّه، واسع الفضاء مزروعاً توتاً وتيناً وزيتوناً وجميزاً في حقول تتدرج نزولاً حتى طريق النهر والمطار العسكري الفرنساوي. المهاجر أيوب العبد بنى أيضاً معامل طحن الحبوب ( المطاحن) التي أعطت الحيّ غباراً وشهرة مع مرور الوقت. لكن شهرة الحيّ الفعلية لن تسطع الا بعد اندلاع الحرب الأهلية بتدفق المهجرين اليه - مع انتشار المذابح والفرز السكاني- من أحياء أخرى ومن الجنوب والشمال والجبل والبقاع. في بضعة شهور اختفت البساتين والأشجار أمام زحف الباطون والتنك. أحاطت البيوت الفقيرة بعمارة أوروبية الطراز أفقدها تعاقب العقود جمال حيطانها القديم. بينما الصخب يعلو من حولها مع ريش الدجاج ورائحة السردين هجرتها عائلاتها الى بنايات أَجْدَد في أماكن أرفع مقاماً. تهلهلت شرفاتها مثل أثواب بالية. تقشّر أباجورها الأخضر. تعدّت على رصيفها بسطات الخضر والسمك. مالكها العجوز متعهد الحفريات في مدينة كولون - باناما أيام شق القناة، غادر لبنان في بداية الحرب ولم يعد. كان شبه أعمى قوي السمع يكره أن يقال عن بنايته بناية العبد لأنه طالما كره نبرة التحقير في الكلمة، لهذا أوصى على البلاطة الحجرية المنقورة المعلقة في المدخل، فوق البوابة الحديد المطرقة السوداء: «بناية أيوب». غطى الوسخ حروف البلاطة. مال باعة الخضر والسمانة الى الاشارة الى البناية باسم «المبرومة» وسمّوا الشارع المنحدر بين أكوام البيوت «نزلة المبرومة». لكن الأقدم في الحيّ -السكان الأصليين- ظلّوا يسمّونها بناية أيوب. وهكذا بقي من الأعمى المهاجر اسمه لاصقاً بالبناية في قلب الحيّ الشعبي المزدحم. آل ثابت وشرارة - الطابق الأول أتجاوز باب السبّاك والناطورة وأنا أتخيل وجهها: البناية كلها تعرف لكن ماذا نقول للرجل وهو زوجها؟ اذا التقيتها هنا -في المدخل الساكن المعتم بسبب المتراس الذي صار يسدّ بوابة البناية- أتجنب النظر الى وجهها الملوّن بالكدمات، أزرق وأسود. تقول وقعت، أو تقول خبطني باب السطح من دون أن أنتبه. لا أعرف لماذا تشرح، فأنا لم أسأل. أصعد الدرجات ركضاً -درجتين درجتين- الى الطابق الأول. على اليسار، فوق زرّ الجرس، مكتوب بالحرف الأجنبي «ثابت وشرارة» مع خربشة سوداء على «شرارة». لم تبدل ليديا ورقة الجرس، لكنها محت بعلامة اكس -أو حاولت- بالحبر الأسود، زوجها. منذ بدأ الخطف على الهوية اختفى المسلمون من البناية: هجروا الشرقية الى الغربية أو الى خارج البلد. سليمان شرارة الشيعي من بنت جبيل في الجنوب كان آخر الخارجين، ونحن استغربنا كثيراً حين اختفى وترك ليديا وحدها مع أمها المفلوجة. * قالت ليديا انهما انفصلا بالتراضي، وان معاملات الطلاق عند المحامي. ناس البناية تأسفوا لأن الأستاذ سليمان الذي يُدرّس عدداً من أولادهم مادة الرياضيات في مدرسة السيوفي كان آدمياً ومحبوباً على وجه العموم، ونادراً ما ضايق أحداً. «يلعن الحرب وظروفها!»، كان طويلاً عريض الكتفين ضخم الجثة لكنه خفيف الخطوة على الدرج، دائم التبسم، حلو التحية، وحين ينزع نظارته السميكة العدستين كي ينظفها يبدو وجهه غائر العينين شديد الهشاشة قابلاً للكسر مع أول هبّة هواء. درّس مادة الجغرافيا أحياناً، وأولاد البناية حفظوا عواصم العالم (السودان: الخرطوم، بلجيكا: بروكسيل، الاتحاد السوفياتي: موسكو، ايطاليا: روما، غواتيمالا: غواتيمالا) وحفظوا حدود الدول في القارات الخمس مقابل حبّات «البومبون» في جيبه. تزوج زواجاً مدنياً في نيقوسيا - قبرص وجاء وسكن مع زوجته في بيت أهلها قبل أن يفرغ البيت ويصير هكذا، طوال الوقت يفوح بعبق المطهرات والأدوية ورائحة الأم المشلولة. النكبة الكبرى حلّت في هذا البيت المعلق فوق «نزلة المبرومة»: أخوة ليديا الشهداء اعتادوا مثل أبيهم أن يعلقوا ثيابهم العسكرية المغسولة خارج النافذة. كانت البناطيل الكاكي تخفق فوق رؤوس النازلين الى بيوتهم ثم اختفت البناطيل ولم تعد الضحكات تفرقع خارجة من النافذة. أولاً قضى الأب (عزيز ثابت، 57عاماً) الرقيب في الجيش اللبناني. عثروا على جثته في «بورة التيان» على طريق النهر مصاباً برصاصة في صدغه وبطعنة سكين في يده. بعده قضى الأخوة المقاتلون الثلاثة (موسى عزيز ثابت-26 عاماً، وايلي عزيز ثابت-24 عاما،ً وطوني عزيز ثابت- 19 عاماً) في غضون شهر واحد موزعين على الجبهات. جنازة خلف جنازة ومن عزاء الى عزاء والصهر الشيعي الاستاذ سليمان شرارة (33 عاماً) صامد كالصنم جنب زوجته الجميلة البيضاء يسندها بقوة الأنبياء ويستقبل التعازي. * «أحسن أن تذهب الى أهلك يا سليمان»، قال له صديق مسؤول في «الكتائب» طالما تعشى في البيت ونام نصف سكران على الصوفا الصفراء القديمة.» وضع الشرقية لم يعد يتحمل. لا نقدر ان نحميك من الزعران وكل الحي يعرف أنك غريب.» «أنا غريب؟» «أنت مثل أخي يا سليمان ومن أهل البيت وتعرف كم أنت عزيز علينا لكن ماذا نعمل؟ البلد صار هكذا والذي سيوقفك على حاجز طيّار لن يقرأ حتى اسمك. المذهب: شيعي. وطاخ طاخ. تريد أن تترمل ليديا ؟ خذْها واتركْ الشرقية. المدرسة أصلاً مقفلة. أنا أوصلك بسيارتي الى المعبر». آل زخور- الطابق الأول على اليمين وأنت تصعد. من السجادة خارج الباب (الدعسة) تعرف أن الساكنين هنا ناس أصليون: السجادة سميكة وثمينة، حمراء مؤطرة بالأصفر. من زر الجرس الفخم أيضاً تستنتج هذه الحقيقة البسيطة. ومن القفل الذهبي والقنديل الأثري المثبت جنب اللمبة. الغبار سميك على القنديل النحاس لكن أحداً لن يحاول سرقته. البيت شبه مهجور لكن ليس تماماً. أصحابه ركبوا طائرة الشرق الأوسط قبل فوات الأوان، لكن الابن الوسيم المدلل للتاجر عيسى زخور وكيل شركة شيفروليه في لبنان ما زال مقيماً في البلد وهو الآن يحارب برصاصاته الأخيرة في أوتيل الهوليداي إن المشتعل. لن يخرج ريمون عيسى زخور من معركة الفنادق سليماً كما دخلها. مع هذا وقبل حلول ساعة الحقيقة في فجر 21 آذار (مارس) 1976 ، سيكتشف سرّ حياته وهو يضاجع البارعة في التسديد والقنص المقاتلة كاترين نمر (الاسم الحركي: أولغا) على تخت ملوكي بظلة عالية حرير. آل عطية- الطابق الثالث جهزوا جوازات السفر وحجزوا تذاكر الطيران الى تورنتو- كندا لكنهم لم يسافروا. حتى مدخراتهم في المصرف حولوها الى الحساب المشترك لابنتهم وصهرهم في الخارج. حزموا أثمن ما عندهم. اتفقوا على الأجرة مع السائق الذي سيوصلهم الى المطار. ودعوا الأقارب والمعارف حين اجتمعوا قبل أيام في كنيس أقامته الطائفة جنب «مدرسة جنفياف» في طرف عبد الوهاب الانكليزي بديلاً موقتاً من كنيس وادي أبو جميل. بدوا غرباء وهم يقفون بين وجوه حفظوا أدق ملامحها. شعروا بالخجل. لكن ما منعهم في النهاية من الخروج الى كندا لم يكن الخجل بل المرض الذي باغت الجدّة. أجّلوا سفرهم ثم وقعت حوادث وضاعت الفرصة. آل زيدان- الطابق الخامس أوقفوا الدكتور شفيق شحروري على معبر السوديكو. كان عائداً من عيادته في الغربية. المذيع شريف الأخوي كان كالعادة يدلّ الناس على الراديو الى الطرقات الآمنة الخالية من القنص ومن حواجز الخطف الطيّارة. المسلحون أحاطوا بالسيارة فجأة قبل أن يبلغ شارع بشارة الخوري. لم يعرف الدكتور شحروري من أين خرجوا. قال لهم أنا معكم، كاثوليك لكن معكم، أخي الشهيد رضا شحروري مقاتل في منظمة العمل الشيوعي استشهد في الليلكي، تلفنوا على مركز المنظمة في الحمرا او في المصيطبة واسألوا عني. أعطاهم سلسلة أرقام حفظها في رأسه تحسباً لهذه الساعة السوداء. دفعه ملثم بعقب ال «أم 16» التي لفّها بشرايط ملونة. بدت البندقية لعبة لا تقتل. ضربه آخر لم ينتبه الى وجوده وهوى على الزفت. استغرب ان يجري الدم من رأسه بهذه السرعة. دبّ على أربع ثم وقف وضغط يده على الجرح. خاف اذا بقي ساكناً ان يجهزوا عليه. لكن صدمة السقطة أخرسته. منذ كان ولداً صغيراً لم يسقط هكذا على الأرض. أحدهم شتمه وسأله أين بطاقته الحزبية اذا كان في منظمة العمل. لم يشرح انه من أصدقاء المنظمة، لكنه مرة أخرى لجأ شبه دائخٍ الى أرقام التلفونات وأعطاهم أسماء أصحابها. كان يترك دفتر تلفوناته الشخصي في العيادة خوفاً من وقوع الدفتر الصغير في يد النمور الأحرار أو الكتائب في الجهة الأخرى من هذا الشارع المشؤوم الذي بات حداً فاصلاً بين عالمين عدوين. أعطاهم رقم أمين عام المنظمة محسن ابراهيم وقال: تلفِنوا له وقولوا له اسمي. أعطاهم أرقام أطباء زملاء عياداتهم جنب عيادته في بناية البنك البريطاني (شارع عبد العزيز) في قلب الغربية. كانوا جميعاً يساريين مثله يقدمون للجرحى والمصابين في الحرب عيادة وعمليات مجانية كل يوم خميس. دفعه الملثم في صدره: « تلفنوا على 345841 واسألوا عني». كان صوته يرجف الآن، يتهدج ويكسر الكلمات ويوشك أن يبكي. لفظ اسم أخيه الشهيد مرة أخرى. لمح كلاباً كثيرة تتجمع وراء صناديق الزبالة. اهتز بالبكاء. في رمشة عين، بهذه البساطة، بسقطة واحدة وخبطة واحدة على الرأس فَقَدَ كل رباطة جأشه. طالما تكلم الزملاء عن هدوء أعصابه في غرفة العمليات. خرطشوا السلاح، قرقع الحديد في المساء الرطب، وعرف أنه لن ينجو. في هذه اللحظة سمع صوتاً أنقذه. أحد المسلحين على الحاجز كان عائداً من محل الفراريج يقضم سندويشته الساخنة في ضوء لوكسات الغاز: تعرّف من بعيد على سيارة الدكتور الزرقاء. «اتركوه، لا تقوصوا»، تكلم المسلح بلا حماسة لكنه أنقذه من موت أكيد. أنزلوا الفوهات المسددة الى وجهه. أعطوه قنينة ماء كي يغسل جرحه. «بسيطة. خدش. الله معك. انتبه!». ظلّت يده ترجف. «والضوء اليمين مكسور. صلحه!». في الجانب الآخر، على الحاجز، سألوه ماذا حدث له، لماذا يغطي الدم وجهه؟ أخرج هويته لكنهم لم يأخذوها من يده. «حفظناك، دكتور». شكرهم وانتظر كي يسمحوا له بالانطلاق. حدقوا اليه بنظرات مظلمة. «تركوك! من يعمل لك الواسطة؟ أنت جاسوس لهم؟ تتجسس علينا وتنقل اليهم معلومات؟». نظر الى يد مشعرة سوداء كالعقرب على حافة الشباك. «قبل نصف ساعة أوقفوا سيارتين بويك ومرسيدس ونزّلوا الركاب وصفّوهم بالرصاص. الرجال والنسوان والصغار. أنت تركوك، لماذا لم يصفّوك؟ انزلْ من السيارة». خاف أن يبدأ بالبكاء من جديد. فتشوه وفتشوا السيارة، تحت المقاعد وفي الصندوق الورّاني. «غداً المعبر مقفل». اقترب وجه منه. لمعت سلسلة ذهب في الليل. شمّ رائحة عفن فظيعة. كان الرجل أخضر الجلد وقال له اذا خرجت مرة أخرى لا ترجع الى منطقتنا، الشرقية ليست أوتيلاً. دفعوه على الباب المفتوح وشتموه وركلوا السيارة بالجزم العسكرية، لكنهم تركوه يذهب الى بيته. من حاجز السوديكو الى بناية أيوب لم يكفّ عن البكاء. ظلّت يده ترجف ولم يسترجع نفسه الا عند نزوله بعد ثلاثة أسابيع في مطار شارل ديغول - باريس. * تلفن من الخارج للمحامي وكيل البناية زخريا الزمار وأعلمه أنه استقر مع عائلته في فرنسا ولن يعود. سأله الوكيل عن المفاتيح. «المفتاح مع الناطورة». «وأغراضكم؟ ماذا أفعل بالعفش؟ المستودع ملآن، ماذا أفعل بأغراضكم؟»، كان الخط سيئاً وسمع ريحاً تصفر ثم انقطع الاتصال. * استأجر الشقة الحلواني المهجر من الدامور السيد غسان الياس زيدان، مفروشة. أولاده ركضوا وتقافزوا مبتهجين بين قطع الأثاث الضخمة. كان خشبها ثميناً محفوراً. أخرج الوكيل زخريا الزمار الكنبات الثقيلة من الصالون ونقلها الى بيته. أخذ أيضاً الخزانة الجوز والدرسوار السنديان والبراد الجديد الويستنغهاوس ومعظم الأقنعة الإفريقية المعلقة. قبل أن يغادر سأله أحد الشغيلة ماذا نفعل بهذه؟ نظر الى اللوحة المعدنية المستطيلة التي انتزعوها من فوق باب المنزل وعقد حاجبيه. الدكتور شفيق بيار شحروري اختصاصي بجراحة القلب والصدر والشرايين حائز شهادة « البورد» الأميركية سأله العامل هل يقدر أن يأخذ اللوحة؟ «خذْها»، قال زخريا الزمار وبكّل زرّ الجاكيتة. آل موراني - الطابق السابع «أوصلتني زوجة خالي الى أمام البناية، «هذه هي». كي أشعر أن المطر رذاذ وخفيف وغير مهم، أطفأتْ مسّاحات الزجاج الأمامي، كانت مثلي ترتدي الأسود ثوب الحداد، لكنني انتبهت الى الطلاء الأحمر الفاقع على أظافر قدميها. هل رأى خالي ذلك وهما يشربان قهوتهما في الصباح؟ رأى أم لم يرَ، لماذا أهتم؟ انهم يتخلون عني منذ اليوم. لم أعد منهم ولا مربوطة بهم. ماتت أمي وصرت بلا أحد. قالت زوجة خالي: «الطابق السابع، لا أعرف أي شقة بالضبط، لكن اسمه مكتوب على الجرس ويعرف أنك آتية، لم ينزل كي يحمل حقائبك، وصلنا أبكر من الموعد. هل تريدين مساعدة؟»، سألتني هل تساعدني بينما ألفّ شالي الأسود على رقبتي، لكنها لم تنزل يديها عن المقود ولم تطفئ المحرك. سيارات تتجاوزنا أطلقت أبواقها لأننا نسدّ قسماً من الطريق الضيقة. لم أكن أعرف أنه يعيش في مكان مثل هذا، «الصندوق مفتوح». قبلتني قبلة وداعية انيقة على خدي. رائحة العطر وكريم الوجه، «تَلْفِنِي لنا في نهاية الاسبوع وسنأتي ونأخذك الى المطعم ونتغدى معاً، اذا كانت الطرقات مفتوحة». تحركت بسرعة كي لا أتبلل كثيراً، سحبت الحقيبة الأولى الى الرصيف، ثم الثانية، لكن بينما أخرج الأخيرة، الأصغر والأخف، من أعماق الصندوق، علق شالي بشيء. دائماً هكذا. وحين خلصت نفسي ووقفت أخيراً بين الحقيبتين الكبيرتين حاملة الثالثة من حزامها على كتفي،كنت محمرَّة الخدين مبلولة الثياب وبنطلوني المخمل الأسود يلتصق ثقيلاً ورطباً بجلدي. إشارة من يدها وابتسامة، وأنا شعرت بالخجل ورفعت يدي ثم حملت الحقيبتين بسرعة ودخلت بين أكياس الرمل المصفوفة كالحيطان الى البناية. ما ان دخلت حتى اختفت ضجة الطريق وطرطقة السقوف التنك. شكرت ربي حين رأيت اللمبة مشتعلة: الكهرباء ليست مقطوعة! كان المدخل قديماً وفسيحاً وعالي السقف، ذكّرني وقلبي يخفق بعنف ببناية الأونيون جنب حديقة الصنائع،حيث كانت أمي تعمل. لا تماثيل أُسُود هنا، لكن رائحة المكان تشبهها، والسكوت. عثرت أخيراً على المصعد في زاوية مظلمة. كان مخيفاً، مصنوعاً من الخشب والحديد ويبدو تحفة أثرية. على كرتونة مهلهلة مربوطة الى صندوق قضبانه المتقاطعة قرأت: «الأسنسير معطل». هذه الحقائب التي كنا نستخدمها حين تضطر أمي بسبب عملها للسفر، أتذكر كم مرة تصارعنا مع ثقلها في المطارات. أتذكر ضحكات أمي وأنا أسقط تحت الحقائب وأختفي. كنت أحب أن أحمل معي قصصي في كل مرة نسافر، وما تسمح لي به من ألعابي. كنت صغيرة. هذه المرة أنا وحدي ولا عربات بدواليب هنا ولا درج كهرباء. حين بلغت الطابق الثالث أو الرابع، جلست على الحقيبة كي أرتاح، هل هو الطابق السابع أم الثامن؟ من أين يبدأ العد؟ من الطابق السفلي أم من المدخل؟ أم أن السفلي يُحسب الطابق الصفر؟ لماذا لم يضعوا أرقاماً على حيطان الطوابق؟ نهضت وتابعت الصعود. أصابعي أوجعتني كأنني أحرقها. تذكرت ان خالي قال: «الطابق الفوقاني»، مع هذا تفحصت الاسمين على الجرسين في الطابق الخامس أو السادس (بعد ذلك سأعرف أنه السادس). استغربت الاسم الاجنبي (هاينيكن) في هذا المكان، وتابعت الصعود. هنا وجدت عدداً أكبر من الأبواب: خمسة! من دون أن أبحث عرفت في أي شقة هو: كان الباب موارباً ومن الداخل يخرج دخان خفيف ورائحة بطاطا مقلية. * على الجرس: «أندريه موراني». لم يخطر ببالي أنني سأقف يوماً في مكان غريب لا أعرفه كي أقرأ اسمه مكتوباً هكذا، بحبر أحمر على كرتونة جرس مكسورة الزجاج. خفت أن أمد يدي وألمس الزرّ. خفت أيضاً أن أرفع يدي وأقرع الباب. لا أعرف كم بقيت واقفة هكذا أسمع حركته في الداخل كي أتأكد أنه وحده وأصغي الى أغنية منبعثة من الراديو، أسمهان أو ليلى مراد أو أم كلثوم، كنت أعرف أسماء المطربات ولكن أعجز عن التمييز بينهن. أوجعني كتفي وحسبت أن مفصلي انخلع من مكانه بسبب ثقل الحقيبة، وكالعادة وضعت اللوم على أمي وعلى هديتها لي التي يفوق وزنها وزن أي كتاب آخر: مجلد «أصل الأنواع» لداروين. لم أتمكن يوماً من إنهائه! كانت دائماً تضحك كلما وجدت نفسي بلا روايات أقرأها، لأنني قرأت كل ما اشتريته واستعرته، وكانت تقول لي: «عندكِ داروين! لا تقولي لي ليس عندي شيء أقرأه!» وكنت أصيح: «داروين ليس قصة! نظرية النشوء والتطور ليست للقراءة. هذا كتاب لتعذيب الأطفال!»، كانت تضحك حتى أطلب منها أن تكف عن الضحك، لأن الضحك الكثير يصيبها بالحازوقة، وذلك أيضاً كان يضحكها. مرات كثيرة كانت تضحك وأنا أقول شيئاً عادياً كأنني قلت للتو أظرف شيء في تاريخ العالم. «أندريه موراني». أصبعي لمس الزر لكنني لم أكبس عليه، شعرت بأمي وراء ظهري: «لورا»، صوتها في أذني لا يتركني. في الليل أقوم من النوم باكية وأبحث عنها في الغرف. سمعت صوتها وكانت تناديني لكنني لا أجدها. معظم الناس ينادونني «لولو»، اسم التحبب الذي لصق بي منذ طفولتي حتى صار تقريباً اسمي. لكن أمي كانت تحب أن تناديني «لورا». على الصفحة الأولى من كتاب داروين الذي اشترته لي كي أقرأ شيئاً آخر غير المغامرات المصورة والألغاز والروايات التي لا أكف عن «أكلها»، كتبت لي إهداءً بخطها المنمنم الطفولي: «ابنتي حبيبتي لورا، لا أستطيع أبداً أن أخبرك كم أحبّك». أبكي وأراها أمام عينيّ تمد يدها كي تمسح دموعي. بقيت واقفة حتى انتهت الأغنية في الراديو ولم أكبس الجرس. سمعت حركة تقترب من الباب. عندئذٍ فقط قرعت الباب. * لم يكن كما تخيلته أو كما تذكرته. لم أرَ أبي منذ تسع سنوات تقريباً. لم يعد نحيلاً، ووجهه تبدل كأنه تورّم، لكن شيئاً آخر جعله يبدو غريب الوجه. لم أنتبه ولم أتمكن من تحديد ما هو الا بعد أن جلست قبالته الى الطاولة حيث وضع الطعام: حلق شاربيه! سألني لماذا حملت الحقائب وحدي. سألني لماذا لم نزمر له كي ينزل؟ وسألني أين خالي؟ شرحت له أن زوجة خالي هي التي أوصلتني، وقلت ان الحقائب أصلاً غير ثقيلة. نظر اليّ كأنني من كوكب آخر أو كأنني أظنه هو من كوكب آخر. كانت يده عرقانة حين صافحني، وبينما ينقل أشياء من البراد الى الطاولة انتبهت إلى أنه مثلي كثير الارتطام بالأشياء. كان يلبس بنطلون جينز أزرق جديداً وكنزة خضراء، وكان ينتعل صباطه. استغربت أنه ينتعل صباطه وهو في البيت. أخرج من المقلى العميق المسودّ «صاجاً» آخر من البطاطا التي احترقت أطرافها. شكرت ربي أنني جالسة في الجهة الأبعد من الغاز. سألني هل ما زلت أحب الإسكالوب الدجاج مع البطاطا والكاتشاب وسلطة الملفوف. هززت رأسي ولم أعرف ماذا أقول. لم أكن جائعة، مع أنني في الصباح، وأنا في بيت خالي في جونيه، لم ألمس الفطور: جلبوا من أجلي فطوري المفضل الكرواسون ساخناً طازجاً من الباتيسري (كرواسون بالجبنة، بالزعتر، بالشوكولا، بالمربى، وكرواسون سادة بلا حشوة) لكنني وجدت الجو الاحتفالي فظيعاً وبلا ذوق. خفت أن أجهش بالبكاء أمام أولاد خالي الصغار. اهتزت الطاولة ورأيته يضع قطعة خشب مربعة تحت قائمة من قوائمها كي تتوازن. كان جسمه قريباً جداً وهو ينحني كي يفعل ذلك، وعندما ابتعد وهو يدمدم بجمل لم أفهمها تنفست من جديد. على قطعة الخشب المربعة جنب صباطي الأسود الطويل الساق رأيت رسم بطة والأثر الدائري الذي يتركه كوب. سمعت المطر فوقي، على السطح. نظرت الى المقلى والى صحن البطاطا وشعرت بتعب شديد. أردت أن أنام. لكن ليس هنا. أردت أن أنام في حضن أمي». * تصدر قريباً عن دار التنوير - بيروت