بكل بساطة تقاعد عميد جيل الرواد من الدكاترة السعوديين الأوائل وذهب إلى بيته ليجلس بين أربعة جدران لأنه موظف حكومي شاء من شاء وأبى من أبى .. فالسنوات الأربعون التي قضاها الأستاذ الدكتور الأديب منصور الحازمي ليبني لبنة لبنة دعائم قسم الآداب في جامعة الملك سعود مؤسسا ومتنقلا بين درجات السلم التعليمي، وينشئ جيلا من الباحثين السعوديين الذين ينهضون اليوم بعبء الحقل الثقافي في بلادنا؛ لم تشفع له. وكما بدأ الدكتور الحازمي غير عابئ بلعبة النصوص لأن النص الأساسي في ذهنه ظل هو الوطن فإنه يطوي اليوم بعد أن كرس وقته وجهده لترسيخ وتطوير تقاليد المعرفة الجامعية في مرحلة لم يكن لمجتمعنا فيها علاقات تذكر بالمعرفة الحديثة ومؤسساتها كل تاريخه في ورقة إحالة إلى التقاعد بعيدا عن أي استثناء. التقيته في منزله المتواضع في حي السليمانية القديم في الرياض، فبدأ حديثه متألما من النكران الحاد لجهوده وعطاءاته متسائلا: كيف يضعون أستاذا متفرغا للعلم طيلة حياته، وخريج مدرسة جيل ملأ الساحة ضجيجا وعطاء من أمثال عبد القدوس الأنصاري وحمد الجاسر والعقيلي والسباعي والزيدان على مرتبة سواء مع موظف حكومي لم يحرك ساكنا طوال حياته؟. ويبدو أنني جئت في لحظة غليان لم تتطلب مني أكثر من سؤال احتكاكي بريء: كيف تجد نفسك بعد التقاعد يا دكتور؟ لتأتي الإجابة صارخة ومدوية: أنت لا تشعر بحجم الألم الذي ينتابني من الجلوس في المنزل وأنا قادر على العطاء. وللأسف الشديد أن جامعاتنا كلها بما فيها جامعة الملك سعود ليس لديها أي تقاليد ثابتة ورصينة للتعامل مع أعضاء هيئة التدريس، خصوصا الذين خدموا لفترة طويلة ولهم تلاميذ. ولاحظ أن معظم من يدرسون الآن هم تلاميذ الجيل الأول الذين قيل لهم مع السلامة. ولا أرى أنه من الضروري إعطاء الاستاذ المتقاعد كما من المحاضرات، ولكن أن تستغل خبرته وعلمه وثقافته واتصاله بحيث يؤدي الشيء الذي يستطيعه، ونحن لم نبلغ المرتبة التي بلغها الكبار مثل طه حسين وشكري عياد وشوقي ضيف وعبد الحميد يونس، وهم الذين كانوا يأتون وهم أكبر منا ويعطون وهذا شرف كبير جدا للطلاب. • تشعر بنكران الجميل؟ هناك عدم تقدير، ويكفيك أن الواحد فينا يخرج من الجامعة فيأخذون منه مكتبه وصندوق بريده وهذا عيب وأمر مؤسف. • هذا وجامعة الملك سعود الأولى عربيا! وأنا من المؤسسين لهذه الجامعة التي تأسست عام 1957م، فعندما أتينا لها عام 1959م، كنا من أوائل المعيدين وسبقنا كلا من الدكتور عزت خطاب والدكتور رضا عبيد والدكتور حسن الشاذلي فرهود وهو من أوائل الأكاديميين الذين خدموا الجامعة وخريج مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن، وها هو الآن يجلس في بيته لا يعرف عنه أحد. علينا أن نعيد الاعتبار للأستاذ الجامعي الذي يظل مخزن معلومات وتجارب وله تلاميذ، فهو ليس إنسانا عاديا ولا يصح أن تعامله معاملة الموظف على الستين وتقول له مع السلامة بجرة قلم، أو أن تحوله إلى نظام المشاركة الشرفية، كأستاذ غير متفرغ فيشعر كأنه دخيل أو ضيف ثقيل. • ألم يحرك فيك هذا التجاهل أشجان الكتابة الشعرية؟ تقصد أشجان الهندي فهي تلميذتي قالها وضحك لا أخفيك أن ما يشعرني بالرضا الدائم والفخر بما قدمت هو رؤيتي لتلامذتي المتفوقين اليوم كالدكتورة نورة الشملان والدكتور عبد الله المعيقل والدكتور مرزوق بن تنباك وحسناء القنيعير وحمزة المزيني وسعاد المانع وسعد البازعي وفاطمة الوهيبي ومعجب الزهراني وميجان الرويلي وغيرهم. • بالمناسبة .. هل ينطبق هذا الواقع المؤلم على جيل القنطرة الذي أطلقه محمد رضا نصر الله على مجموعة الدكاترة الستة الأوائل في جامعة الملك سعود؟ جيل القنطرة لم ينل حقه المفروض وليس جيلنا فقط الذي تم نسيانه، وإنما أجيال أخرى وكثير من الأشياء الجميلة نسيت، وذاكرة المجتمع لم تعد الذاكرة القديمة التي كان الواحد يشعر معها بارتباط. تغيرت الحياة مع الأسف، ولم يعد لدينا تقاليد تصل الأجيال بعضها ببعض وهذه ظاهرة ليست خاصة بنا نحن فقط. • هذا وأنت من القلائل الذين لم ينشغلوا بالطفرة! والله كنا مشغولين بالتجارة العلمية، وأتذكر أننا كنا نطلع طريق خريص ونجلس في قهوة في «كيلو عشرة» ولم نكن نشاهد إلا الصحراء وكانت الأراضي ب «تراب الفلوس»، ولو فكرنا في تجارة الأراضي لأصبح الواحد منا مليونيرا منذ ذلك الوقت. وقد كانت سنوات التسعينيات الهجرية السبعينيات الميلادية هي السنوات التي يشار إليها دمعا بأنها سنوات الطفرة والبناء والانفتاح، حيث شغل الناس بالمال وامتلأت الجبال والبراري والقفار بالدلالين والمتسوقين، وانصرف الطلاب يبحثون عن الذهب المخبأ في بطون الرمال، وانصرفنا نحن نبحث عن الطلاب. وقد كتبت في تلك الفترة قصيدة بعنوان «على أطلال كلية الآداب» أشكو فيها الحال، وأقول في مطلعها: قف بالديار على كلية القلم واسكب لديها دموع الحزن والألم عفت معالمها لولا شويهدها على الجدار وفي الهيكل الهرم • ولكن هناك من تركوا مواقعهم العلمية للحاق بالطفرة! من فعل ذلك ارتكب خيانة علمية، والمسألة ليست تقشفا؛ فمن جاء له شيء فلا مانع لكن دون أن تؤثر على مسؤوليته العلمية. • أبا مازن .. دعني أخرج بك من هذه السحابة السوداء التي لا تمطر! أتمنى أن تمطر مع الدكتور العثمان وأن تتحرك هذه الأمور. • بالعودة الى ذكريات الطفولة في دحلة حرب.. إلى أي مدى أثر فيك يتم الأب والعيش في الصنادق القديمة والبيئة البائسة، وسكانها من صغار العمال والجمالة؟ أثرت في كثيرا، وأنا لحقت فترة الجمال والشقادف وكانت مكة ما بين الحربين العالميتين ليس فيها مظاهر حضارية؛ فلا كهرباء ولا طرق مسفلتة وأغلب سكان دحلة حرب من عائلات كثيرة من أهل البادية وأنا منهم، ولكن حولها نظام الفزعة إلى أسرة واحدة .. والبدو يفضلون السكن في أطراف مكة ليكونوا قريبا من الصحراء والمراعي، فالمعابدة فيها عتيبة وحرب وغيرهم وهناك حارة العتيبية وريع اللصوص، فيما كان الحضر وأهل البلد يسكنون بالقرب من المسجد الحرام في الشبيكة والسوق الصغير والمسعى والقشاشية والمدعى من جهة الجودرية وإن كان هناك بعض النجديين آنذاك، وكنا نسكن في عشش وصنادق ويعمل بعض شباب الحارة في قصور ابن سليمان المجاورة لنا وكان سواقه أسمر اللون ورشيق القوام تفوح العطور من ثيابه، وأنا لا أعرف والدي لأنه توفي وعمري عامان ولكنه من سكان وادي آلاب، وقد كتبت عن هذا الوادي. ومما عرفته أنه كان متزوجا بأكثر من واحدة وعندما تزوج أمي أنجب منها إخوتي فيصل الكبير ثم زيد ثم أنا وبعدي أخت اسمها فاطمة توفيت وهي صغيرة، وعندما توفي لم تكن والدتي قد تجاوزت التاسعة والعشرين من العمر، فتولت جدتي بشخصيتها القيادية إدارة الأمور وهي من «وادي حجر» وتأثرت بها كثيرا؛ فقد كانت تلبس المشلح وتخرج ملثمة وتلبس العقال كأنها رجل، وكان أهل الحارة لا يبرمون أمرا إلا بعد أخذ رأيها. ولم تكن قضية الفصل بين الرجال والنساء بهذا الشكل الذي عرفناه بعد، فالمرأة كان لها دور وقيمة ومثقفة بالنسبة للتقاليد والواقع وهي كما كان يقال «جاهلة» لكنها تقوم بأعمال لا يقوم بها المتعلمون من الرجال، وأصبحت حبيسة اليوم بعد أن علمناها. • بدأت مشروعا للكتابة عن مواقع متعددة في حياتك، فلماذا توقف؟ ما زالت الفكرة قائمة وأغراني للكتابة ما قامت به الدكتورة سلمى الخضراء الديوسي من خلال عرض ما كتبته عن الدحلة على إحدى الجامعات الأمريكية وترجمتها إلى الإنجليزية، وهي دكتورة مقيمة في الولاياتالمتحدة ومعروفة بترجمتها الكثير من الآثار العربية للغة الإنجليزية، فبدأت أكتب عن ريع الرسان الذي انتقلنا إليه بعد الدحلة والذي سمي من أرسنة الإبل. وكان أخي فيصل قد أصبح موظفا في البريد، فانتقلنا من العشش والصنادق القديمة والقيع إلى الشارع الرئيسي في ريع الرسان المؤدي الى حارة الباب، فأستأجرنا «عزلة» يعني بيت برواشين، وهذه نقلة كبيرة جدا، فكنت أجلس على الروشان وأشاهد الناس وبيت صبحي الألمعي وكان يملك أكبر عزلة في الريع، وكانت الأحذية تصنع من «كفرات» السيارات، والمشي بكفرات السيارات خير من أن تمشي حافيا تلك الأيام. وبدأت أتذكر وأكتب انطلاقا إلى جميع الأحياء التي قطنتها أثناء الدراسة بعد ذلك سواء في داخل المملكة أو خارجها، فأكتب عن الدقي في القاهرة حينما كنت طالبا، والبطحاء في الرياض حيث انتقلت اليها معيدا في جامعة الملك سعود، وسويس كوتج في لندن اثناء دراستي في جامعة لندن، وأتمنى أن تتحول في يوم ما إلى مؤلف جديد. • يقال إن أشد آلامك النفسية كانت في المعهد العلمي السعودي؟ دون شك. وهذا الجرح القديم لا ينسى، فعندما أنهيت دراستي الابتدائية في المدرسة الخالدية في مكةالمكرمة وكنت الأول على زملائي، حاولت الالتحاق بمدرسة تحضير البعثات الثانوية ولكنني أرغمت على الالتحاق بالمعهد العلمي السعودي تحت تأثير الإغراء المادي من عبد الله عبد الجبار مدير المعهد، وكان هناك أناس يجلسون ليغروا التكارنة والبدو المحتاجين لدخول المعهد العلمي بجنيه جورج الصغير المذهب، وأمام الفقر وحاجتي للفلوس قبلت الالتحاق بالمعهد بينما التحق زملائي بمدرسة تحضير البعثات التي كان يديرها آنذاك أحمد العربي، وعندما عدت إلى البيت في المساء زعلت وأبديت لأخي فيصل رغبتي في الالتحاق بزملائي في مدرسة تحضير البعثات لأنهم يدرسون فيها الهندسة والعلوم والكيمياء فلم يهتم لكلامي، فتأثرت نفسيا وانقهرت في داخلي وجاءني إحباط كبير ومرضت وتركت المعهد لمدة سنة كاملة، ثم عدت لاستكمال دراستي عندما عرفت أن الخمسة الأوائل في المعهد يتم ابتعاثهم إلى مصر، فقلت: شيء أفضل من لا شيء، واجتهدت كثيرا لأكون من الخمسة الأوائل وعندما أعلنت النتائج كنت صاحب المركز الأول ففرحت كثيرا وابتعثت إلى القاهرة، لكن فرحتي لم تكتمل، فقد وجدت أمامي أيضا عبد الله عبد الجبار شافاه الله في القاهرة، مسؤولا عن المبتعثين فقلت له «ورايا ورايا». وفعلا حصل ما كنت خائفا منه، فقد صدمت حينما عرفت من إدارة البعثات أنه لا يسمح لطلاب المعهد إلا بالالتحاق بقسم اللغة العربية أو بكلية دار العلوم، وكنت أظن وقد حرمت من الكليات العلمية بطبيعة الحال أنه يمكنني الالتحاق ببعض أقسام الآداب الأخرى، ولاسيما قسم الفسلفة أو قسم الاجتماع، فدخلت قسم اللغة العربية وكان من حسن حظي أن أعيش في هذا القسم أجمل أيام حياتي ونسيت همومي بوجود العمالقة؛ طه حسين وشكري عياد وحسين نصار وسهير القلماوي، وعندما كان يحاضرنا طه حسين لم نكن نحن طلبته نجد لنا مكانا في القاعة لأن كثيرا من طلاب الهندسة والطب وأساتذة بعض الكليات كانوا يأتون لحضور محاضراته. • يبدو أن هذه الفترة المليئة بالمد القومي قد شكلت تفكيرك وتوجهك؟ طبعا تأثرت بالتوجهات القومية، وكلنا كنا ناصريين وكنا نستمع لخطب جمال عبد الناصر كما نستمع لأغنيات أم كلثوم .. وعندما وصلنا إلى مصر عام 1959م كانت الثورة المصرية قد بدأت قبلنا بسنتين وظهر جمال عبد الناصر كأمل لكل العرب، لكن كل هذا تلاشى بعد حرب النكسة. • لحي الدقي في مصر معك ذكريات مشهودة! في السنتين الأوليين كنت أسكن في دار البعثات مثل كل الطلاب المستجدين لأن النظام كان يفرض على الطلبة السكن لمدة سنتين في الدار، بحيث يظل الطالب تحت المراقبة وبعدها يختار له زميلا أوزملاء ليسكنوا خارج دار البعثات فكان زميلي يوسف نحاس وسكنا بداية في الدقي، ثم انتقلنا إلى ميدان الجيزة وكنا نشاهد من شقتنا في الدور السابع طائرات العدوان الثلاثي التي ضربت مصر. • لم ترجع إلى المملكة؟ من يرجع؟ كنا نشعر أنها معركتنا وأننا نشارك في الحرب بعدم العودة وهناك الكثير تطوعوا للدفاع عن مصر في تلك الحرب. • في خضم هذه الأحداث السياسية كانت لك صولات وجولات عاطفية، ويقال إن إحدى زميلاتك في الكلية جعلت منك شاعر تفعيلة؟ «انت تبغى تفضحنا»، القصة وما فيها أنني كنت أسكن في شارع المساحة الجميل في حي الدقي وهو شارع كله عطور وزهور وأشجار، وكانت تمر من الشارع المؤدي لبيتها أيضا زميلتي في الكلية هدى العجيمي التي أصبحت بعد ذلك مذيعة مشهورة وهي ظريفة وخفيفة دم، وكنت مأخوذا بجرأتها وشخصيتها فأهديتها قصيدتي الأولى «خفقات قلب» وأعطيتها لشاعر سوداني صديق لي ليوصلها لها وقلت فيها: وكم مرة جمعتنا الطريق تظللنا وارفات الشجر أسير إليك حثيث الخطى وأقصر أخرى بعيدا حذر فلم أستطع أن أفوه بحبي إليك ولا أن أذيع الخبر بأنك نجم تألق في سماء حياتي وبدر أغر وكانت هذه الفتاة المتمردة الشاعرة ترتاد أندية الشعر فقالت: شعرك لا بأس به، وأردفت قائلة: ولم لا تكتب شعر التفعيلة؟ فانصرفت من الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة، وكان شعر التفعيلة في ذلك الوقت يعد ثورة كبيرة جدا في عالم الشعر، وكنت أرتاد الأندية الأدبية التي كانت تعقد في كلية الآداب في جامعة القاهرة، فتلك الفتاة جعلتني شاعرا ولا أدري لماذا، وقد كتبت شعرا كثيرا عنها، وقد اعترفت في الإهداء الذي صدرت به ديواني الوحيد: «أشواق وحكايات» بذلك حين قلت: «إلى من فتنت بالشعر ذياك الزمان، وفتنت بها. وجهدت، مخلصا، أن أرضيها، فكتبت لها كلاما موزونا مقفى، أشاحت بوجهها وقالت: لم تصنع شيئا، إنما الشعر هو الحر المنطلق. فسهرت الليالي كي أتحرر من قيود الشعر حتى كبلني بها.. وركبني غرور الشباب، فاستمرأت اللعبة ونسيتها وشخت في الحزن معها». ولكنها لم تر الديوان ولم تر الإهداء، ورأيتها صدفة في المربد في العراق بعد مضي أكثر من ربع قرن على لقائنا القديم وهاتفتني، فقلت هذه الأبيات بعد ذلك تعبيرا عن خيبة الأمل: كلمت، قال صاحبي من ترى؟ قلت موعدا بعد عشرين حجة مد لي طيفها يدا جاءني بعد أن مضت أعصر وانقضت سدى لم يعد من أحببته مثلما كان أغيدا لا ولا من أحبها مفعم القلب أمردا لم يصل غير صوتها ناعم الخطو كالندى يسكن السمع نبره كيفما اهتز أنشدا قالت الويل ما أرى قلت: عيناك والردى • لكنك لم تتزوج عن حب! لا وليس ضروريا أن يتزوج كل شاعر معجب بمن يحب. • ولم تجمع تجربتك الشعرية في كتاب! أنا شاعر بسيط ولست محترفا، والحقيقة أن قضية الشعر مثل الرواية، فقد أصبح لدينا روائيون كثر مع أننا كنا نبحث عن روائي واحد فقط، لكننا لم نجد في فترة لم يكن فيها إلا حامد دمنهوري بروايتين وأحمد السباعي برواية واحدة وعبد القدوس الأنصاري بالتوأمان القديمة، أما اليوم فأصبح كل الناس شعراء وروائيين. • الملاحظ غياب السير الذاتية عن المكتبة العربية أيضا. كل ما ظهر الآن عبارة عن سير ذاتية سواء للنساء أو الرجال، ويبدو أن الفن القصصي أصبح متنفسا لأشياء مكتومة يريد الكاتب إخراجها. • وهل تسوى فعلا؟ لا ما تسوى .. ولكن ممكن تكون مثل رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل مثلا، وعلى العموم فالكتابة ليست دائما بشكل مجرد وآلي لكنها تسير أحيانا حسب التيار السائد لدينا الآن. • هل ما زلنا نعيش على هامش الفكر والثقافة العربية أم تغيرت المعادلة؟ مع العولمة والانفتاح الذي يشهده العالم فمن الصعب أن نظل منعزلين، ولا أدري هل الانفتاح الحالي من المساوئ أو من المحاسن لأن الأولاد والأحفاد لا يقرأون الآن، وإنما نجدهم على الإنترنت فهذه كارثة ومصيبة. • يبدو أنك لا تحب الكمبيوتر؟ عندي جهاز في مكتبتي ولا أعرف له. • قلت مرة: أن الأدباء يشعرون بأنهم غرباء دائما، لماذا؟ لأن المفروض أن الثقافة هي الأمة. والمسألة ليست بهذه الصورة، صحيح لدينا جامعة عربية ومجلس تعاون ولكن الأوضاع العالمية تساعد على التفكك وليست هناك خطط استراتيجية. ويكفيك مثلا أننا عملنا خطة شاملة للثقافة العربية وشاركت فيها تحت مظلة الجامعة العربية لمدة خمس سنوات وساهم فيها مئات الباحثين العرب وسافرنا إلى المغرب وتونس والكويت واليمن من أجل عبد العزيز المقالح لعدم تمكنه من السفر، وظلت حبيسة الأدراج، وهذه هي مشكلتنا أننا نعمل أشياء وننساها وإذا أردنا أن نبدأ ثانية ننطلق من نقطة الصفر أيضا، وليس هناك تخطيط دائم. وقد حاولنا قبل فترة من خلال مجلس التعاون الخليجي أن ننفذ خطة الثقافة العربية وعملنا اجتماعات وجلسات لنعرف ما الذي نستطيع تطبيقه بما يتلاءم مع مجتمعنا ولكنها لم تتم أيضا. • على مستوى الداخل .. أليس هذا دور الأندية الأدبية؟ كنا نجتمع في السابق مرة كل عام لعمل تخطيط جماعي على مستوى كل الأندية الأدبية في المملكة، وفي أحيان كثيرة تتوقف هذه الاجتماعات فيبدأ كل ناد محاولا الظهور ويغيب التعاون والتواصل، وهذا أمر ينسحب أيضا على الجامعات التي تفتقد التواصل والتعاون فيما بينها حتى في إطار المدينة الواحدة، وهذه مصيبة وقضية تمس الأمة نفسها. • بالنظر إلى تجربتك الشخصية في رصد الصحف القديمة، هل الصحف الحالية تمثل أيضا مصدرا مهما للتوثيق؟ كل زمن له ظروفه وعندما بدأت الرصد لفترة ما بين الحربين العالميتين عملت شيئا جديدا من خلال ببلوجرافيا صحيفتي أم القرى وصوت الحجاز، وقد تعبت في جمع المادة وقراءتها وتصنيفها، وأعتقد أن الصحافة في تلك الأيام كانت هي المرشد والمنور وهناك موضوعات كثيرة يقال عنها الشيء الكثير، وفي الواقع أن قراءة الصحف من أمتع القراءات، وأنا كنت أتجه في أول الأمر اتجاها أكاديميا وأريد هدفا معينا، ولكنني أصبحت أقرأ حتى الإعلانات، ولم تقتصر قراءاتي على الأدب، فالمعجم شامل يبحث في التاريخ، وفي علم النفس حتى في الرياضة، يعني من يريد أن يعرف تاريخ رياضة كرة القدم مثلا يمكنه أن يقرأ تلك التعليقات التي كانت موجودة بتوقيع جهينة في (أم القرى)، وهي قديمة جدا قبل أن ينشأ الاتحاد والوحدة، ولكن مشكلتنا أنه ليس لدينا تواصل أجيال؛ فقضية المرأة نوقشت من سبعين سنة من أحمد السباعي وحمزة شحاتة والعواد وكانت مدارس البنات ممنوعة في تلك الفترة ومن يقرأ الصحافة القديمة يجد أشياء عجيبة جدا. أنت تذكرني الآن بالمسرح الذي يطلق عليه أبو الفنون والموجود في بلادنا كنص، ولكنه غائب كنشاط من خلال تجربة أحمد السباعي رحمه الله أيضا الذي حاول بوعيه وفهمه منذ سبعين سنة أن يعلم الناس ويثقفهم عندما تقدم إلى المسؤولين لينشئوا مسرحا في مكةالمكرمة وتمت الموافقة عليه وفي آخر الأمر صدر المنع، ولو كان لدينا مسرح لتغيرت كثير من المفاهيم الخاطئة لما له من أهداف علمية واجتماعية، وفي رأيي أن المسؤولين عنه كثر ولكن اختفاء المرأة عن المسرح يعتبر مشكلة أيضا. • على ذكر المرأة .. لماذا تصرح دائما بأن مركز الدراسات الجامعية الذي رأسته: خرج من العزلة معك وعاد إليها بعد أن تولته النساء؟ مركز الدراسات الجامعية للبنات أخرجناه من العزلة عندما كنت رئيسه أيام إدارة الدكتور منصور التركي للجامعة وكنت أول وآخر عميد له، ولكنه عاد إلى العزلة فعلا بعد أن تولته النساء حتى في طريقة التدريس، فقد كنا ندرس طالبات الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه مباشرة واستمررنا على ذلك لمدة ربع قرن ولم تحدث أية مشاكل أبدا من الأوهام التي طرحت لوضع الدائرة التلفزيونية واستفادت الطالبات كثيرا واستطاع الأساتذة تقييم مستوياتهن بوضوح. • كأنك تعارض استخدام تقنية النقل التلفزيوني للطالبات؟ أعتبرها من أكبر نكسات التعليم الجامعي، وعندما كنت عميدا أتى إلي العديد من أساتذة الجامعات الأخرى مستفسرين عن مدى صحة تدريسنا للطالبات مباشرة وكنت أؤكد لهم ذلك فكانوا يستغربون وكأن هذا الأمر مصيبة. وللأسف فنحن عملنا من المرأة مشكلة ومصيبة في المجتمع وكأنه لا توجد نساء في العالم الإسلامي إلا عندنا مع أنها ذات إمكانيات ومواهب، ولكننا دفنا حقها .. وكأنه كان هناك تلفزيونات في العصر الأموي، عندما كان العلماء الكبار يتخرجون على أيدي نساء. • دكتور أنت تقف كذلك بحدة من قضية تقديم الكتب! مقدمات الكتب أصبحت كأنها توصية للقراء بالشراء وهذا لا يليق. الإنسان المبدع يقدم نفسه من خلال عمله وهذا أفضل تقييم له. • وهل ما زلت على موقفك من الحداثة؟ التطرف في الحداثة هو المشكلة، ومن كان حداثيا اتهم بأشياء كثيرة تمس حتى الدين، ولكن لم يعد لها ذلك الوهج الآن. • لم تصرح حتى الآن بأسباب استبعادكم اسما كبيرا مثل عبد الرحمن منيف من موسوعة الأدب الحديث التي أشرفت عليها. «هو عاش فين هنا والا في الخارج؟». • يا دكتور الأديب بمكان تواجده أم بإنتاجه الأدبي؟ خصوصا أن الرجل هو أفضل من أرخ للتبدلات التي طرأت على الجزيرة العربية من خلال رواية «مدن الملح». افرض أننا نسينا عبد الرحمن منيف أو فلان أو علان، فهذا يحدث، ولهذا يقال من ألف فقد استهدف وليس هناك شيء كامل، ويمكن في طبعة أخرى استدراكه، ولكن الهجوم على الموسوعة كانت له جوانب أخرى، فقد قيل إن مساقط رؤوسنا قريبة من بعض وفكروا أننا من جهة واحدة، وللأسف أن هذا كلام سخيف وعنصري بحت وأقسم بالله العظيم أننا لم نفكر فيه إطلاقا. • هل طلب منكم استبعاد أسماء معينة؟ إطلاقا لم يطلب منا ذلك، ولكن من الممكن أن نكون نسينا أشخاصا. هناك سيدات احتججن علينا أيضا، ولكننا ركزنا في عملنا على الأنواع الأدبية كالشعر والمقالة وغيرها. • يستغرب البعض كيف جمعت بين صرامة الأكاديمي وسخرية الكاتب؟ السخرية هي نتاج القراءة للمازني أوبرنارد شو مثلا، ولكن المهم أن تكون فيك هذه الخصلة فلا تنظر للأشياء نظرة كلية وكاملة، وإنما تبحث عن جوانب أخرى فيها. • أحيانا تكون من معاناة. وأحيانا من نظرة شاملة للكون ومن زوايا متعددة وهي التي تخرج وتفضح ما هو مكتوم. • إلى أي مدى أخذ العمل الإداري من جهدك الإبداعي والأدبي قبل التقاعد؟ نحن الجيل الأول الذي قام بسعودة الكليات في جامعة الملك سعود وكان كل عمداء الكليات من الإخوة غير السعوديين كثر الله خيرهم جميعا، وكانت دفعتنا مكونة من الدكتور أحمد البدلي المتخصص في اللغة الفارسية، والدكتور عبد الرحمن الأنصاري وعمل على موضوع الآثار، والدكتور أحمد الضبيب واهتم باللهجات والتراث الشعبي وعمل متحفا لذلك وكان رائعا، وأنا عملت معجما كما عملت أول مجلة علمية في كلية الآداب وفي الجامعات السعودية كلها، وحاول كل منا أن يقدم شيئا لبلده وجامعته. ثم جاءت رئاسة القسم فرأسته بعد أن كانت رئاسته لمدة طويلة بيد غير السعوديين ومن الطبيعي عندما تصبح عميدا أو رئيسا لقسم أن تفقد مميزات علمية لانشغالك عن تخصصك لكن تظل العناصر الإدارية مهمة بالنسبة للجامعة وكنا نعتبرها جزءا من مهمتنا تجاه الوطن. • ألم تفكر بعد التقاعد أن تستعيد ذكريات مصر الحالمة؟ ربما نحن الذين كنا حالمين أيام الشباب، وكانت بالنسبة لنا القاهرة القديمة نقلة كبيرة بخضرتها ونهر النيل والسينما والمسارح والشوارع الجميلة كشارع فؤاد الذي كان يغسل ليليا بالماء والصابون وترى الناس رجالا ونساء يأتون ويذهبون، وكنت مشجعا لقضية القومية العربية، وبعد هزائم 67 وما بعدها تغير في نفوسنا كل شيء حتى مصر نفسها تغيرت فقد زرتها عندما دعيت من المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة مرور 75 عاما على وفاة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فزرت الأماكن القديمة التي أعرفها ومن بينها دار البعثات القديمة في شارع المساحة وكان معي الدكتور سعد البازعي، فلم نستطع السير في الشارع من كثرة النفايات والسيارات؛ فهل هذه مصر التي كنا نتغزل فيها؟ .. كل شيء تغير. • يبدو أن شعرك نضب بعد التقاعد؟ الشعر نضب فعلا بحكم السن ولم تعد فيه المغريات القديمة ولا أقوله كثيرا. • البعض يرى أنك ميال إلى العزلة والوحدة. ضحك ساخراً، وقال: أنا من يومي وحداوي كأهل مكة، كما أن أهل جدة تلك الأيام كانوا كلهم اتحادية. • يعني كنت لعيب يادكتور؟ كنت ألعب الكبوش والبينغ بونغ فقط.