المتابع لتراكم الاحداث منذ بداية الثورات في بداية عام 2011، يرى المخاض العسير الذي تعانيه هذه الثورات في اتجاه تطورها من إطار ثورة على نظام وإسقاطه إلى بناء دولة قوية ذات سيادة. عدد من الناس بات على قناعة أن ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، كناية عن الثورات العربية التي كان مأمولاً منها أن تؤدي إلى ازدهار الشعوب العربية، باتت على شفا الموت أو أنها لم تكن ثورات ويصل البعض لأبعد من ذلك ليتساوق مع افكار وطروحات تزعم ان هذه الثورة صناعة أجنبية جاءت كجزء من مؤامرة أو جزء من مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي طرح في سنوات خلت . الدارس للعلوم الانسانية والاجتماعية والمتابع للثورات العربية يدرك ان ما حدث منذ عام 2011 في عدد من الدول العربية هي بداية ثورات جاءت لتخرج على الظلم والقمع والوضع السياسي والاجتماعي السيء وكانت معبّرة عن إرادة الشعوب، مع التأكيد على أن هذه الثورات لن تستطيع بين عشية وضحاها أن تقلب الأمور رأساً على عقب وبالتالي لا يمكن القول أنه في غضون سنة او اثنتين أن الثورات قد فشلت وماتت، بل هي ما زالت في حالة مخاض وصراع عسيرين مع ذاتها اولا ومع كل القوى المضادة لها، اذ لن يكون من السهل على المنتفعين من الأنظمة السابقة والمتخوفين من الأنظمة الجديدة أن يسمحوا بأن تمر هذه الثورات بدون عمل مضاد او ما يسمى الثورة المضادة، وعليه تحتاج هذه الثورات لسنوات أو حتى لعقد أو إثنين لكي نقرر انها حققت التمكين على الأرض أو فشلت في المهمة، وإنَّ اكبر مثال على ذلك هو الثورة الفرنسية وما عانته. وبالتوازي مع العمل على الوضع الاجتماعي الاقتصادي للناس ورفع مستوى المعيشة، والعمل باتجاه بسط الأمن، هناك امران اساسيان - لا يعنيان أنه لا يوجد أمور أخرى ذات أهمية، يتعلقان بالثورة ونجاح مسارها. الأول، ثورة المفاهيم، فلا يمكن لثورة ضد النظام أو ثورة على رأس النظام أن تنجح لتكون ثورة لها ما بعدها، إلا اذا كانت ثورة مشبّعة بالمفاهيم والمُثُل والقيم العليا التي يجب أن تنتشر بين الناس، خاصة :مفهوم الحرية، احترام قيمة الانسان والعدل وهي مفاهيم لا يمكن الاستغناء عنها بغض النظر عما يحصل ومن يحكم وهذا ما فقدته الثورة المصرية بعض الشيء وتمثل ذلك بالانقلاب العسكري، وكأن الناس يقولون نحن ضد من ظلمنا ولكن هذا لا يعني أننا لن نظلم أحداً اذا ما كان الأمر لمصلحتنا وهنا تكمن الخطورة، يمكن القول أن الثورة بحد ذاتها على رأس النظام مؤشر إيجابي ولكن يبقى محدوداً ما دامت هذه الثورة لم تثر على المفاهيم السيئة وتتبنى المفاهيم والقيم العليا، وأن تقوم بترتيب أولويات تطبيق المفاهيم. الثاني، الثورة على التبعية، فالثورة ليس لها القيمة المرجوة إذا كانت تعني فقط الخروج على الوضع القائم من دون أن تعني الخروج عن التبعية والعمل على الاكتفاء الذاتي، فما دام الدولة أي دولة معتمدة إقتصادياً وعسكرياً على الخارج فهي مرتهنة لهذا "الخارج"، وبالتالي أي قرار لصنّاع الثورات سيكون مرتهن لأجندة هذه الدول، ولن تكون الثورة ثورة حقيقية ما دامت بأيدي دولة أجنبية ومرتهنة القرار والسيادة. هذا لا يعني وقف امكانيات التعاون والتبادل الاقتصادي والتجاري بل يعني العمل على الاكتفاء الذاتي. كل هذا يجب أن لا يعني أن هذه الثورات في طريقها للفشل، بل هذا يعني أنها تمر بمسار طبيعي يمكن أن تمر به ثورات عديدة ، بل هذا يعني أنه يجب أن تقف هذه الثورات مع معطيات الواقع وتنطلق منه لصنع المستقبل والذي سيكون مشرقاً لكون البداية قد حلت والانطلاقة،مع تعثرها، ولكنها تمت.