كانت الهدنة في غزّة حاجة وضرورة للجميع، حاجة لإسرائيل بعدما شعر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن استمرار المواجهة بدأ ينعكس سلبا على شعبيته، وهو على أبواب انتخابات دعا اليها ليؤكد للرئيس باراك أوباما على أنه معادلة صعبة في الشرق الأوسط لا يمكن تجاوزها، او اختزالها بسهولة. لقد شاء توقيت الهجوم على غزّة ليعرض عضلاته الانتخابيّة، وإذ تأتي النتائج مغايرة، إذ مرّت أيام على بدء الهجوم من دون ان تتوقف الصواريخ الغزّاوية مستهدفة المدن والمنشآت الإسرائيليّة، فيما ارتفعت الكلفة الماليّة بشكل غير مسبوق نتيجة تشغيل "القبّة الحديديّة"، ودعوة الاحتياط الى الالتحاق بالوحدات العسكريّة، فضلا عن الحالة الاستثنائيّة التي عاشتها إسرائيل. وباختصار، لقد حققت الفصائل الثوريّة الفلسطينيّة نوعا من توازن الرعب دفع بنتنياهو الى طلب الهدنة بأسرع وقت، وبأقل كلفة ممكنة.وكانت الهدنة حاجة للغزّاويين، بعد الشروط التي فرضتها حماس، والجهاد الإسلامي على الحكومة الإسرائيليّة، وهذا تطور نوعي لم يسبق أن حققته السلطة الفلسطينيّة بقيادة محمود عبّاس طوال الجولات التفاوضيّة السابقة. كما كانت ضرورة لالتقاط الأنفاس بعدما تأثرت حركة الإمدادات بشكل كبير، وارتفع عدد الشهداء في صفوف الأبرياء، وتفاقم النقص الحاد بالأدوية والمستلزمات الطبيّة، والنفط، والطاقة، هذا فضلا عن حجم الدمار نتيجة الغارات المكثّفة التي استهدفت منشآت حيويّة. وأنهت الهدنة أياما كانت صعبة وضاغطة على مصر. لقد مرّ حكم " الإخوان" بامتحان صعب سقطت فيه كلّ الشعارات الثوريّة، بحجة أن الإمكانات لا تسمح بأخذ مصر الى حيث لا يمكن ان تكون فيه لاعتبارات سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. وكان على الرئيس محمد مرسي أن يتصرّف على غرار ما كانت تتصرّف القاهرة بعد إبرامها اتفاق كمب دايفيد، فاستدعت سفيرها من إسرائيل، واقتصر حراكها على القنوات الدبلوماسيّة. لقد أكّد الهجوم على غزّة بأن " الإخوان عند الأمريكان"، وأن إدارة الرئيس مرسي و"إخوانيته"، ليست بعيدة عن واشنطن، وما كان متاحا في زمن المعارضة، لم يعد كذلك بعد الوصول الى السلطة التي دخلها بربطة عنق أمريكيّة - أوروبيّة - غربيّة بامتياز، وقلّم أظافره، ولملم أطراف حديثه، وقلل من وطأة شعاراته، فإذا هو " طبعة منقحة" مغايرة تماما لثوريته و"إخوانيته"، وعلى قدر عال من البراغماتية السياسيّة، قادرة ان توفّق ما بين "شعارات الإخوان، وأجندة الأمريكان". إن التكتيك الأمريكي - "الإخواني" في مصر قد أفقد رئيس حزب العدالة والتنمية، رئيس وزراء تركيا رجب طيّب أردوغان صوابه، كان يتطلع الى مهمّة تكلّفه بها واشنطن ليلعب دور الوسيط، فلم يلق أياهتمام من قبل وزيرة الخارجيّة هيلاري كلينتون، ولم تكن أنقرة على جدول جولاتها المكوكيّة في المنطقة، حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لم يشأ أن يعطي النعمة التركيّة أكثر من استحقاقها، صحيح أن وزير الخارجيّة أحمد داود أغلو حاول أن يعوّض النقص الحاصل من خلال وجوده كشريك في حركة الاتصالات والمشاورات التي أفضت الى اتفاق الهدنة، إلاّ أن أردوغان وجد نفسه مهمّشا، وهذا ما دفع به الى اعتماد خطاب متطرّف ضدّ إسرائيل، شعبويّ على مستوى العالم الإسلامي والعربي، للفت الأنظار، والتعويض عن مكانة منتقصة.أما الرسالة الأكثر وضوحا في رمزيتها وشفافيتها فكانت برسم طهران. لقد نجحت الولاياتالمتحدة بعد التوصل الى اتفاق الهدنة في القاهرة، في تلميع صورة الرئيس محمد مرسي، وإبلاغ الرئيس أحمدي نجاد بصورة غير مباشرة، أن لا دور لطهران في هذه التسوية، ولا قرار، رغم الدعم الذي وفّرته وتوفّره للفصائل الثورية في غزّة، وتفاديّا لهذا المأزق اضطرت حركة حماس الى إصدار بيان يشيد بدور طهران، ويشكر لها دعمها المادي والعسكري، وذلك لحفظ طريق العودة، والحفاظ على البقيّة الباقيّة من ماء الوجه. وفضحت الهدنة المحاولة المتعمّدة التي سعى اليها بنيامين نتنياهو لاستدراج الرئيس باراك أوباما الى مكان لا يريده على الساحة الشرق أوسطيّة مع بداية ولايته الثانية في البيت الأبيض. إن الهجوم على غزّة كانت له أهداف عدّة، منها وضع البيت الأبيض أمام سياسة الأمر الواقع لاختبار مدى استعداد واشنطن في الانسياب وراء سياسة إسرائيل في المنطقة، والاصطفاف الطوعي الى جانب حكومتها، بمعزل عن شفافية السياسة التي تنتهجها، وجاء الردّ الأمريكي مخذلا، وكان نوعا من التجاهل التام، بعد اغتيال نائب القائد العام لكتائب القسّام أحمد الجعبري، والاكتفاء فقط ببعض المواقف التي أحرجت نتنياهو خصوصا عندما اكتفى الرئيس أوباما شخصيّا بالقول: "يحقّ لإسرائيل الدفاع عن النفس، لكن اجتياح غزّة خطّ أحمر".اعتمدت واشنطن بداية سياسة النأي بالنفس عن أي دخول في لعبة التفاوض، الى أن طلب نتنياهو التدخل للمؤازرة، والإشراف على مسار المفاوضات الصعبة. وعندما جاءت وزيرة الخارجيّة هيلاري كلينتون بناء على تمن من تل أبيب، كانت واضحة في موقفها: "هدنة تأخذ بعين الاعتبار بعض الشروط الإسرائيليّة، وأيضا بعض الشروط الغزّاويّة"، ورضخ نتنياهو على مضض بعد أن شعر بأنه ليس في الموقع الذي يخولّه من فرض الشروط على أوباما، بل حتما في الموقع الذي يتلقاها، ويعمل بوحيها مرغما؟