على رغم ان السبب المباشر للازمة الناشئة اليوم بين تركيا واسرائيل يعود الى سفك دماء اتراك بأيدٍ اسرائيلية على متن أسطول الحرية، إلا ان التدهور يعود الى شهور طويلة قبل ذلك وتحديداً منذ الحرب على قطاع غزة. ولكن من يحسب ان حكومة رجب طيب أردوغان، قد بادرت الى هذه الأزمة بسبب معاناة الفلسطينيين، فإن المسؤولين الاسرائيليين يصححون اعتقاده ويقولون: لا، انها لسبب آخر. ومن يحسب ان هذه العلاقات تقترب من نهايتها، فإن الاسرائيليين يصححون اعتقاده مرة أخرى ويقولون: على رسلك. فطالما ان العلم التركي يرفرف فوق ذلك المبنى في قلب تل ابيب، وطالما ان الجيشان يواصلان تنفيذ غالبية التزاماتهما كلٌّّ تجاه الآخر، فإن العلاقات بعيدة جداً من نقطة النهاية. فكم بالحري، عندما تكون إدارة الرئيس باراك أوباما تتدخل لدى الطرفين وتضع سقفاً يحظر اجتيازه في تدهور العلاقات. العلاقات بين اسرائيل وتركيا، أقوى من أن تنتهي بهذه السهولة، بحسب الون لئيل، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الاسرائيلية والذي شغل منصب سفير لإسرائيل في أنقرة لفترة طويلة ويعتبر من أهم الخبراء في السياسة التركية، ويضيف «إن التدهور في العلاقات كان بسبب تراجع حكومة اسرائيل السابقة، برئاسة ايهود أولمرت، عن المفاوضات السلمية غير المباشرة بين اسرائيل وسورية. فإذا استؤنفت هذه المفاوضات في اسطنبول غداً، ستتحسن العلاقات من جديد. وإذا وافقت اسرائيل على اعطاء دور لتركيا في المفاوضات بين اسرائيل وحماس، فإن العلاقات ستزدهر». ويؤكد هذا الرأي خبراء إسرائيليون في السياسة التركية. ويذكرون ان أردوغان ورفاقه يهاجمون اسرائيل بشراسة منذ سنة ونصف السنة، ولكن هذا لم يمنعهم من الاستمرار في التعاون العسكري مع اسرائيل. وها هي صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية تكشف في الأسبوع الماضي عن وجود قاعدة لجهاز الموساد على الأراضي الشرقية في تركيا هدفها التجسس على ايران. وقالت ان اسرائيل تخشى من تدهور في العلاقات يؤدي الى إغلاق هذه القاعدة. وخلال معركة «أسطول الحرية»، أعلنت تركيا عن الغاء ثلاثة تدريبات عسكرية مشتركة مع اسرائيل، كانت مقررة خلال الشهرين الجاري والتالي. وهذا يعني ان تركيا، عندما كانت تهاجم اسرائيل على سياستها العدوانية طوال تلك الشهور، كانت تجري تدريبات مشتركة مع جيشها. وعندما كانت تتهم اسرائيل بجرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني لأن غاراتها العسكرية على قطاع غزة فتكت بألوف الفلسطينيين، كان الطيران الاسرائيلي ولا يزال يتدرب في سماء تركيا وفقط في سبيل الاحتياط، بدأ سلاح الجو الاسرائيلي يفحص إمكان إجراء التدريبات في سماء رومانيا أو غيرها من دول البلقان. وهكذا، فإذا كان هذا هو الوضع في العلاقة بين الدولتين بعد عملية «الرصاص المصبوب» التي قتل فيها اكثر من الف فلسطيني فإن مقتل تسعة أتراك، لن يكون تأثيره على العلاقات بين البلدين أسوأ بكثير. وفي كل الأحوال فإن الحقائق على ارض الواقع تشير الى ان هذه العلاقة لن تتأثر على نحو خطير ويعود السبب الى مصلحة عسكرية واقتصادية وسياسية للطرفين. وفي تصريح لوزير الدفاع التركي، وجدي غونول، بعد الاعتداء على «اسطول الحرية» قال ان التعاون في مجال الدفاع مع اسرائيل لن يتوقف مبرراً ذلك ان المشاريع بين البلدين ليست خطيرة ولا كبيرة. وهذا التصريح بحد ذاته يؤكد ان العاصفة التي تهب بين البلدين لا بد أن تعود لتهدأ. ومع ذلك، فإن الاسرائيليين يختلفون في تقييم مستقبل هذه العلاقة وهناك من ينظر بتشاؤم في ظل الخلافات الظاهرية داخل حكومة بنيامين نتانياهو والتي تنعكس عبر مواقف وزير الخارجية افيغدور ليبرمان، الذي اعترض على قرار رئيس الحكومة ووزير دفاعه ايهود باراك، بإطلاق سراح ركاب السفينة من دون اجراءات قضائية. وفي حين رأى كل من نتانياهو وباراك ان خطوة كهذه من شأنها ان تساهم في تخفيف حدة التوتر، من جهة، وتراجع الانتقادات الدولية لإسرائيل، من جهة اخرى، رأى ليبرمان ان قراراً كهذا يعتبر مهادنة اسرائيلية لأنقرة، معتبراً أن تركيا دولة معادية لإسرائيل تماماً كما هي ايران وان هذا العداء غير تكتيكي بل استراتيجي: «فالقيادة التركية الحالية تنفذ خطة استراتيجية على أكتاف اسرائيل ترمي الى اعادة الامبراطورية العثمانية الى المنطقة، لتعيد سيطرتها على العرب والعالم الإسلامي». اردوغان... مصيبة استراتيجية في نظرة سريعة الى العلاقات التركية – الاسرائيلية يبدو واضحاً انها الافضل بين اسرائيل ودول المنطقة، إذ إن العلاقة وثيقة بين الطرفين على مختلف المستويات، فالتجارة شهدت اتساعاً كبيراً خلال السنوات الاخيرة وأصبحت قيمة التبادل التجاري بين البلدين حوالى ملياري دولار، وهي لا تشمل صفقات بيع السلاح الاسرائيلي لتركيا. والتعاون العسكري يعتبر ركناً مركزياً في العلاقات النهائية. والتعاون الأمني والاستخباري «يفوق كل تصور». وتحمّل جهات في تل أبيب حكومة اسرائيل مسؤولية تدهور العلاقة وإبعادها وانعكاسها على موقف المجتمع الدولي فالمشكلة بحسب هذه الجهات تكمن في وضع اسرائيل المتدهور في الوعي الدولي بسبب قيادتها المتمثلة بنتانياهو وباراك وليبرمان ووزير الداخلية، ايلي يشاي. ويشدد هؤلاء على «ان غياب العملية السلمية سيؤدي الى تدهور اخطر في وضع اسرائيل اذ إن وقائع الأسطول البحري، ما كانت لتحدث لو كنا في تفاوض مع القادة الفلسطينيين». ومن بين هؤلاء من يرى في الإعلام الاسرائيلي وفشله سبباً في الأزمة الحاصلة اليوم، اذ إن اسرائيل التي تعيش الآن صراعاً من أجل إنقاذ اسمها، ترى في الإعلام الوسيلة الوحيدة لتحقيق اهدافها. ولكن من دون سياسة سليمة، سيظهر الإعلام أداةً فارغةً. وفي مقابل هذه الأصوات هناك من يرى في رئيس الحكومة التركية، رجب طيب اردوغان، عنصراً مركزياً في الأزمة مع تركيا من جهة، وفي الانتقادات الدولية المكثفة ضد اسرائيل، من جهة ثانية. وبات اردوغان اليوم بالنسبة للإسرائيليين اخطر الشخصيات، ولا حدود للصفات التي يطلقونها عليه. فهناك من اعتبره مثيراً للتحريض والكراهية وهناك من وصفه بالداهية واعتبره «احمدي نجاد الثاني». وقال بعضهم انه يسعى الى استغلال الوضع الحالي ليتسلق عليه ويدخل التاريخ على حساب الاسرائيليين ليصبح «صلاح الدين». بل ان امنيين اسرائيليين وصلوا الى ابعد من ذلك وعبروا عن قناعتهم بأن «الفخ الذي اعد لركاب القافلة أسفل سفينة «مرمرة» هو ثمرة العقل الناشط لاردوغان». وفي موازاة حملة التحريض على اردوغان هناك من حذر من خطر التعامل معه بهذه الطريقة وعلى عكس هذه المواقف يرى الباحث في شؤون الشرق الاوسط، تسفي بارئيل ان اردوغان قد يعمل نحو خطوات سياسية مهمة في الشرق الاوسط، اذ يمكن ان يجد تسوية للأزمة بطرح سلسلة من الشروط لترتيب العلاقات مع اسرائيل تتضمن تحديد جدول زمني لرفع الحصار عن غزة، عبر إشراك دائم لتركيا في المسيرة السياسية واستئناف المفاوضات غير المباشرة بين اسرائيل وسورية بوساطة تركية. هذه الشروط، حتى لو كانت عسيرة على الهضم في اسرائيل، لن تلقى معارضة مهمة من جانب واشنطن، المتعلقة بتركيا في مجالات عديدة. من جهة اخرى يرى تسفي بارئيل ان اردوغان، الذي اجرى مشاورات مع الرئيس السوري وايران، يمكنه من الآن فصاعداً ان يدفع الى الأمام المصالحة بين «حماس» وحركة «فتح» ووضع اسرائيل في وضع لا يمكنها فيه أن ترفض مبادراته السياسية. فإذا باشرت تركيا هذه الاستراتيجية، سيكون بوسعها تحقيق مكسب سياسي اضافي، يأتي تواصلاً لنجاحها في صياغة اتفاق تبادل اليورانيوم مع ايران، الاتفاق الذي سيصعب على اسرائيل مهاجمته. صدام بحري جديد احتلال لغزة وفي ظل الأجواء التي تثيرها التصريحات حول وصول أساطيل حرية جديدة الى ميناء غزة شدد إسرائيليون على ضرورة التعامل مع كل سفينة تصل في شكل مغاير، خصوصاً إذا وصل اردوغان على رأس إحداها. وحتى اليميني المتطرف، الياكيم هعتسني، يرى «ان مواصلة سياسة إسرائيل الحالية باعتراض السفن المقبلة من شأنها ان تؤدي الى نتيجة مغايرة ويرى ان الوضع سيؤدي الى حرب والحرب مع تركيا هي فكرة مجنونة، ولكن أيضاً الاستسلام للإنذار التركي في خدمة حماس يسحق سيادتنا»، ويضيف: «أين سينتهي الأمر؟ فإذا حاولنا إعطاء الأتراك الرد في البر، سيحتل الجيش الإسرائيلي ميناء غزة وهكذا سيمنع صداماً بحرياً اما التتمة فستكون محتمة: احتلال القطاع بأكمله وبثمن باهظ». ويرى أولئك الذي يرفضون وقوع صدام بحري جديد أن تقوم إسرائيل بخطوات عملية تدفع نحو مشاريع سلمية على المستوى الإقليمي فيما الخطوة الإلزامية الأولى تكون بترميم العلاقات مع تركيا في شكل عام ومع رئيس وزرائها في شكل خاص. وتؤكد المقترحات الإسرائيلية لحل الأزمة الدولية والتركية مع إسرائيل ان ذلك «يحتاج الى جرأة سياسية، تؤدي الى رفع الحصار عن غزة فوراً وتقريب تركيا من الخطوات السياسية في المنطقة». على اي حال تبقى التركيبة الحالية لحكومة بنيامين نتانياهو عقبة أساسية أمام تحسن الوضع القائم بل ان وجود افيغدور ليبرمان يشكل عثرة كبيرة، ليس فقط في وجه خطوات مقترحة انما في وجه العلاقة مع تركيا. فهو لم يتأخر في الرد على الأصوات الداعية الى مشاريع سلمية إقليمية وأعلن انه «من الخطأ الاعتقاد انه يمكن تغيير الموقف التركي تجاه إسرائيل بمزيد من الجهود أو البوادر الحسنة، لأن الحديث يدور عن تغيير استراتيجي في القيادة التركية ناتج عن تحولات في المجتمع هناك فيما القيادة التركية اتخذت منحى مختلفاً في موقفها تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية.