قال العراقي لصاحبه المصري "حياتي كلها مآسٍ". سأله المصري "أنت مآسك كم"؟ هذه نكتة مأساة العراقيين، لا يعرف مقياسها إلاّ الله. الرئيس أوباما قاس البعد الخاص ببلده من مأساة العراق فوجد "أنها بكل مقياس أطول حرب... وواحدة من أكثر الفصول استثنائية في الخدمة العسكرية في تاريخ بلادنا (الولاياتالمتحدة)". واستخدم أوباما موهبته البلاغية في حديثه في القاعدة العسكرية في ولاية "نورث كارولاينا" عن معاناة المجندين الأميركيين و"مخاطر القتال والوحدة بعيداً عمّن تحبون. والدماء التي نزفتموها من أجل أفضل أصدقائكم، والعراقيين المجهولين". وخاطب العراقيين "المجهولين" بالقول: "أنتم شعب عظيم نابت في مهد الحضارة البشرية. وتربطكم منجزات راسخة، ويشدكم بقوة تاريخ، كالنهرين اللذين يقطعان أرضكم". وأشاد بموقفهم الشجاع "بدلا من الاستسلام لقوى التفرقة، تراجعتم من الانحدار في الحرب الأهلية، وأظهرتم مرونة تستحق الفخر والإعجاب". وكما يبدو، يعرف أوباما، وهو من أصول إفريقية، المثل الإفريقي "من لا يعرف قط إلى أين هو ذاهب لن يعرف أبداً ما إذا كان قد وصل". ويختلف في هذا عن الرئيس السابق الذي أعلن عن تحقيق النصر، وهو لا يعرف أين وصل، ولا إلى أين هو ذاهب". أوباما يعرف أنه وصل "البيت الأبيض" لأنه عارض حرب أميركا على العراق، ويعرف أن عليه إخراج أميركا من العراق لأنها خسرت الحرب. وهل هناك تسليم بالخسارة أفصح من حديثه عن "العراق غير الآمن، المقبل على أيام صعبة. العنف سيظل جزءاً من الحياة في العراق. وكثير من الأسئلة الأساسية حول مستقبل العراق ما تزال من دون حل. وكثير جداً من العراقيين ما يزالون مُرّحلين ومُعدَمين. ويضيف انخفاض موارد النفط مشاق جديدة على حكومة تواجه صعوبات في توفير الخدمات الأساسية"؟ وتثير المرح تساؤلات معلقين سياسيين حول مصداقية خطة أوباما للانسحاب من العراق. هل سينجز وعده فعلا بسحب جميع القوات القتالية صيف العام القادم؟ وهل يقوم بالانسحاب الكلي نهاية عام 2011؟ هذه المواعيد منصوص عليها في الاتفاقية الأمنية بين واشنطن وبغداد، والتساؤلات حولها كالنكتة الكردية عن شخصين التقيا في المقبرة، فسأل الأول: "خير إن شاء الله؟... طمئنا!"، أجاب الثاني: "لا ماكو شي، بس الوالد شويه متوفي"؟ وتفوت النكتة من لا يعرف أن السياسة بالنسبة للولايات المتحدة كالحرب، كلاهما "بيزنس". و"البيزنس بيزنس" كما يقول الأميركيون، وهو سبب التحول المدهش لأغلبية الأميركيين من تأييد الحرب والاحتلال إلى البحث عن أسرع طريق للتخلص من كليهما. وقد كانت واشنطن بحاجة إلى مقامر طائش، كالرئيس السابق للدخول في ما تصورته صفقة القرن الجديد الرابحة، والآن تحتاج إلى محاسب حصيف للخروج منها بأقل كلفة ممكنة. والحساب والحصافة أهم مكونات باراك حسين أوباما، نصف الإفريقي، نصف المسلم، الذي شقّ طريقه إلى الكونغرس، وصوّت داخله ضد الحرب على العراق. خطبته في معارضة الحرب، التي ألقاها خريف عام 2002، تعتبر من مأثور الكلام. وفيها أعلن أنه لا يعارض جميع الحروب، لكن "ما أعارضه هو الحرب الغبية، ما أعارضه هو الحرب المتهورة، وما أعارضه هو المحاولة السفيهة لريتشارد بيرلي، وبول فولفوفيتز لحشر أجنداتهما الأيديولوجية في أفواهنا، بغض النظر عما تكلفه من أرواح وما تولده من مشاق". ويقارن خبراء البلاغة فن أوباما الخطابي بأشهر الخطباء الرؤساء في تاريخ الولاياتالمتحدة، كأبراهام لنكولن، وفرانكلين روزفلت، وجون كنيدي. والفصاحة لا تفصح من دون الإفصاح بالحقيقة، والبلاغة لا تبلغ من دون تبليغ الحقيقة. ولا أدري ما إذا كانت الفصاحة أم الحصافة هي التي صاغت أوجز صفقة سياسية في التاريخ وأقلها كلفة. فالقسم الثاني من الخطة الاستراتيجية للانسحاب من العراق، التي أعلنها أوباما، يتكون من ثماني كلمات فقط، وهي "الدبلوماسية المساندة بالنيابة عن عراق أكثر مسالمة وازدهارا"؟.ً وأوضح أوباما في خطابه ما لن يفعله من أجل العراقيين: "لن نستطيع أن نحرس شوارع العراق حتى تصبح آمنة تماماً، أو البقاء حتى تبلغ وحدة العراق الكمال. ولن نبقي فترة غير محددة الالتزام الذي فرض عبئاً على جيشنا، وسيكلف الشعب الأميركي ما يقرب من التريليون دولار". ماذا عن الكلفة بالنسبة للعراق، الذي غزته واشنطن بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل ظهر أنها غير موجودة، وكانت تعرف أنها غير موجودة؟ وما الرقم، ولو التقريبي لعدد قتلى العراقيين وجرحاهم؟ وكم يكلف علاج وإعانة ملايين ضحايا الحرب المقعدين، واليتامى والأرامل، والمهجرين والنازحين والمشردين؟ وما قيمة الثروات المادية والثقافية والبشرية المنهوبة والمدمرة، وما الفرص التاريخية والحضارية التي أضاعتها الحرب على العراقيين؟. العراق مرآة تعكس صورة الولاياتالمتحدة لسنوات وعقود عدة قادمة. وهي أتعس من صورة نظام الرق، التي جعلت توماس جيفرسون، الرئيس الأميركي بداية القرن التاسع عشر، يقول: "أرتعد لأجل بلدي كلّما أفكر أن الله عادل، وأن العدالة لن تنام إلى الأبد". ويُعتبر انتخاب أوباما تعويضاً للمظلومين، ولو بعد قرنين. الظلم الذي وقع على العراقيين أفدح من أن ينتظر عقدين وليس قرنين. وحجم آمال العراقيين بحجم آلامهم، ولا يمكن فصلهما، فالعذاب يحرر الضحية من أوهامها. وقدرة العراقيين على التحمل سيف ذو حدين، يدمي قلوبهم وقلوب من يؤذيهم. وهل أوجعت قلوب العراقيين كما أوجعتهم تقاطعات المقاومة المسلحة والسلمية ضد الاحتلال؟ ما لم يعوض الرئيس أوباما العراقيين عما فعلته الحرب بهم، فلن تعني فصاحته غير ما تعنيه "الخطب العامة التي تهب دائماً كالرياح في الصحراء من دون نفع". قال ذلك الملك السعودي الراحل فيصل عندما سئل عند ترؤسه وفد المملكة إلى الدورة العامة للأمم المتحدة، لماذا لم يلقِ خطبة. وتاريخ اللغة حافل بالمفارقات، وقد تصبح فصاحة أوباما واحدة من مفارقات استخدام اللغة كسلاح للتدمير الشامل. والمكتبة العالمية عامرة ببحوث وكتب، وتسجيلات سمعية وبصرية عالجت طرق وأنماط سلاح اللغة في الحرب ضد العراق. وتحتل الطائفية أكبر حيز من أسلحة الدمار الشامل اللغوية التي استخدمها المحتلون على نطاق واسع في العراق. ومع أن أوباما يحذر حكومة العراق من الطائفية، فهو يستخدمها في الإشادة بمساهمة من يسميهم "عرب العراق السُنة" في توجيه ضربة قاصمة ادّعى أن القوات الأميركية أنزلتها ب"القاعدة"! وهذا كادعاء الإدارة الأميركية السابقة بأن الأكراد والشيعة يؤيدون الاحتلال، ولن يفسد مثله على العراقيين متعة استخدام الطائفية كسلاح للتنكيت.وقد تنفع الرئيس أوباما في رسم سياسة واشنطن بصدد الطائفية، نكتة عراقية عن زيارة الرئيس السابق بوش مدينة الحلة. تذكر النكتة أن بوش سأل محافظ المدينة عن أقوى المدن تأييداً له في غزو العراق، أجاب المحافظ: "مدينة الحلة طبعاً". قال بوش "أوكي.. قررت قصفها بقنبلة نووية جزاءً على هذه الورطة". استدرك محافظ الحلة مذعوراً: "سيدنا الرئيس مدينة تكريت تأييدها أقوى"؟. المغربية