في هذا الليل الجداوي البارد هذه الأيام.. يتجلى وجه المدينة الطفولي حيث يقبع في حواري جدة القديمة مقهى عتيق يدعى " مقهى زمان " بُني بالطريقة التقليدية القديمة و تم طلاؤه حديثاً بالدهان الأبيض ليواكب موجة التجديد العارمة لعله يهرب من بقايا شيخوخته المزمنة. بوابته مميزة.. زُينت بالنقش اليدوي الرهيب وإلى حيث تناغم المكان في ساحته الشاسعة يتخلل فضاءه لوح خشبي شفاف أعد بشكل هندسي رائع ليتيح لضوء الشمس منح المكان روحا جديدة من خلال فسحة ضوء ماتعة ليبدو بحيوية دائمة. هناك يتهافت شغف "مروان" صديقي الصدوق والذي اعتاد أن يمكث فيه ساعات طوال.. سألته ذات مرة عن سر هذا التشبث بالرغم من كثرة المقاهي بالقرب من منزله والتي تفوق إمكانيات هذا المقهى المتهالك لتأتى إجابته على الفور وهو يشير إلى بوابة المقهى المزخرفة هنا في مقهى زمان أتنفس التاريخ وأشاهده عبر هذا النقش اليدوي الأخاذ. أثار فضولي هذا المنطق الجميل لأبحث عن ماهية المقاهي في التاريخ العربي الحديث وأتعرف على أدوارها في حياة الناس والمجتمع والمدينة. وفي الحقيقة أنني ذهلت وأنا أقرأ عن مكانتها العظيمة في حراك الثقافة العربية حيث أن أعظم الروائين العرب كانوا يرتادونها و ينسجون من خيالاتها الوارفة قصصهم الجميلة.. بين ردهاتها يكتسب المبدع منهم فرصاً ثمينة تجمعه بشخصيات يصنعها.. وأحلام يحاكيها وإيحاءات يتفاعل معها لم تقتصر الأدوار التي تشهدها المقاهي في تلك الفترة عند حدود النقاشات الودية اليومية بل أنها تعدت ذلك لتجعل منها مراكز اجتماعية ومدارس لتنمية الهوايات الأدبية كالسرد والخطابة والإلقاء وكذلك تعليم الأدب الفلكلوري العام.. من هنا ندرك أن المقاهي كانت نقاط توعية وتثقيف لعامة الناس وخاصتهم وكانت لها أدوار في تنظيم العلاقات والقيم الاجتماعية والحفاظ على الثقافة والتراث بين فئات المجتمع. يقول الروائي العظيم نجيب محفوظ والذي يعتبر دلالة بارزة في العلاقة المتوائمة بين المقاهي والأدب " المقهى بالنسبة لي نافذة أكثر اقترابا من الناس وسلوكهم بكافة مستوياتهم وطوال عمري كنت أفضل أن تكون بعض المقاهي محطات في حياتي، صحيح أنها لم تكن تستغرقني تماما إلا أنها تظل في الذاكرة دائما". هناك أعداد من المقاهي الهامة والتي حُفظت في ذاكرة الأيام وكان لها ذات الأدوار في مسيرة عدد كبير من رجالات الأدب والثقافة منها على سبيل المثال لا الحصر.. مقاهي الحسين والفيشاوي والحرافيش في مصر و مقاهي الحكواتية في الشام ولعل المتأمل في حال المقاهي اليوم يدرك بأنها قطعت علاقة التواصل فيما بينها وبين القديم من حيث الأدوار والمهام. هي اليوم جوفاء إلا من بعض الثرثرة التي لافائدة منها.. لاتهدئ من ضجيج الموسيقى البلهاء وصخب الضوضاء, يجد فيها البعض فرصة لاتفوت ليستعرض مهاراته المزعجة المقززة دون إكتراث بمشاعر الأخرين وحقوقهم وهذا مادعاني حقاً لأعقد صفقة وفاق بيني وبين "مقهى زمان" لعلني أنعم بالأجواء التي يصفها مروان أتنفس التاريخ وأشاهده عبر ذلك النقش اليدوي الأخاذ.. وإلى لقاء يتجدد . [email protected]