إن الحج يختلف عن الفرائض الأخرى، ففيه الصلة الروحية والطهارة النفسية والقدرة العقلية والسياحة الفكرية والقوة البدنية والعزة الربانية: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ" [الحج : 28]. كما أنه الفريضة الوحيدة التي يُسعى إليها ويسافر إليها، فهو لا يتكرر في اليوم خمس مرات ويُعنى بالجوانب الروحية كالصلاة مثلا، وليس فريضة موسمية تمر مرورًا عابرًا وتُعنى بالطهارة النفسية كالزكاة مثلا، بل إنه يجمع الطهر المكاني والزماني والروحاني والنفسي؛ ففيه صلاة، وإنفاق، وطواف، وسعي، وتلبية، وذكر، وهَدْي.... إلخ. أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعًا لعزة من تعنو الوجوه وتسلم يهلون بالبطحاء لبيك ربنا لك الحمد والملك الذي أنت تعلم دعاهم فلبوه رضا ومحبة فلما دعوه كان أقرب منهم وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة ولم تثنهم لذاتهم والتنعم إن الحج أشبه بدورة فكرية روحية بدنية ثقافية قلبية أخلاقية، دورة شاقة في التخلية والتحلية، ولكنها ممتعة في السمو الروحاني والقلبي؛ فالحاج لبى نداء ربه مجيبًا مختارًا، وسعد بذكره واستغفاره ليلا ونهارًا، ودعاه ورجاه ضحى وأسحارًا، ليعود روحًا جديدة، مُنحت شهادة: "وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي" [طه : 39]. والإنسان - في هذا كله - أشبه بقميص أو عباءة وقعت على الأرض فامتلأت أتربة وأوساخا، فأخذها صاحبها ونفضها بهدير التلبية، حتى أبعد عنها ذرات التراب الظاهرة، ثم وضعها في إناء من ذكر واستغفار حتى لانت أوساخها وتباعدت عنها، ثم قام بعصرها بدعاء الذل والافتقار إلى الله حتى خلصت من شوائبها الخفية، ثم نشرها على حبال الإخلاص حتى حلّ عليها رضا الرحمن.. "وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ" [البقرة : 198]. وما زال وفد الله يقصد مكة إلى أن يرى البيت العتيق وركناه يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه فمولى الموالي للزيارة قد دعا أنقعد عنها والمزور هو الله نحج لبيت حجه الرسل قبلنا لنشهد نفعا في الكتاب وعدناه فيا من أساء يا من عصى لو رأيتنا وأوزارنا تُرمى ويرحمنا الله وودعت الحجاج بيت إلهها وكلهم تجري من الحزن عيناه ووالله لولا أن نؤمل عودة إليه لذقنا الموت حين فجعناه ثمرات موسم الخيرات والطهر الذي نعنيه يتعدى أثره وخيره إلى الآخرين، فالذين يعودون من هذه الرحلة القصيرة يعودون خلقا آخر كما قال صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (رواه البخاري ومسلم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (رواه البخاري ومسلم). ولكن البر هنا ليس معناه أن يظفر الحاج بلقب الحاج ليُدل به على غيره ممن لم يؤدِّ الفريضة. ولكن البر من آمن بالله ورد الجميل إلى خلق الله تعالى.. عملا صالحًا وكلمًا طيبًا. "إن مجرد أداء الفريضة لا يرشحك لدخول الجنة.. إلا إذا عشت على مستواها طهرًا ونبلا.. ولك في تقاليد الحياة من حولك شاهد. فإنه إذا أعلن عن وظيفة.. ثم رُشح لها مستحقها.. فإنه لا يظل مستحقًا لراتبه إلا إذا أبقى على المواهب التي رشحته لها ابتداء". (ثمرات من مواسم الخير). ولكي ندخل إلى قائمة الأبرار ليس علينا فقط أن نؤدي فريضة الحج، وإنما علينا أن نستعمل ثمرات هذه الرحلة فيما خُلقت له، فالقلب مثلا كما يقول بعض العلماء: إذا لم يستعمل فيما خُلق له من الفكر في اجتلاب المصالح في الدين والدنيا، واجتناب المفاسد.. تعطل.. فاستترت جوهريته؛ فإذا أضيف إلى ذلك، فعل ما يزيده ظلمة، كشرب الخمر وطول النوم، وكثرة الغفلة، صار كالحديد يغشاه الصدأ فيفسده، ولا ينقذ القلب من هذا المصير إلا تقوى الله تعالى. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "إن للإنسان سفرين؛ سفر في الدنيا، وسفر من الدنيا، وسفر الدنيا زاده الطعام، والثاني زاده التقوى". والحج رحلة إلهية فيها رائحة الآخرة، ومن ثم فهي خير من الأولى؛ لأنه يخلصك من عذاب دائم، ويسلمك إلى نعيم مقيم. وحينما يرجع الإنسان من هذا السفر عليه أن يحيا حياة الأبرار طهرًا ونبلا، وسلوكًا وغاية، وعبادة ومعاملة، وبرا وإحسانًا، وأخوة وتناصرًا. ومما يعينه على ذلك: إدراك الغاية والهدف اللذين خلقنا من أجلهما والوسيلة الموصلة إليهما. ضبط النفس وكبح شهواتها مع محاسبتها أولا بأول. المحافظة على تقوى الله في السر والعلن. الشعور بالعِزة والفخر للانتماء إلى هذه الأُمة. تدعيم أسباب التواصل بين المسلمين وتقوية أواصر الأخوة والمحبة بينهم. المحافظة على تعظيم شعائر الله. التدريب على تحمل المشاق والسعي لمرضاة الله. هنيئاً لك... فيا أيها الحاج.. يا من تركت كلّ محبوب وأقبلت على أعظم محبوب، يا من فارقت الأهل والأحباب من أجل أن ترضي ربّ الأرباب.. لا تكن كما يقول ابن عطاء الله: "لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى، المكان الذي يرتحل منه هو الذي يرتحل إليه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكوّن، وأن إلى ربك المنتهى". وهنيئًا لك أخي هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك بأن جعلك ممن زار بيته الحرام لا ليُلقي عن كاهليه ما افترضه الله عليه وحسب، وإنما ليلقي عن ظهره الآثام والأوزار، ويزداد قربًا وحبا للعزيز الغفار.. وليقوم برسالته في هداية هذه البشرية إلى منهج الله وحده وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، رزقنا الله وإياكم حج بيته الحرام