بعض المقولات الدينية التي تطرح في الكتب وتحولت إلى ثوابت عند قطاع عريض من المتدينين لا تشكل أية أزمة لديهم إذا لم تصدم بالواقع ، لأنها تظل مقولات ذهنية ، تبعث الطمأنينة واليقين في نفوس معتنقيها ؛ لكن الإشكال والتأزم يحدث حينما تصطدم مقولاتهم الذهنية هذه مع الواقع ، وقد أحسن الدكتور حمد الماجد حينما طرح تساؤل في جريدة الشرق الأوسط بعنوان أحب زوجتي المسيحية.. أفتوني كيف أكرهها؟ ، وكانت المقالة تدور عن التأصيل الذي يطرح في بعض الكتب العقدية المعاصرة عن وجوب بغض الكفار وعداوتهم ، وأورد مقولة الدكتور جعفر الشيخ إ: (( لا أعرف كيف يطلب إليّ بعضهم أن أكره رجلا نصرانيا يمشي في الشارع؟ وحتى لو أردت أن أكرهه فلن أستطيع! )) . هذا الموضوع الذي أثاره د الماجد فرع عن إشكالية موجودة في بعض الأطروحات اليوم في المسائل العقدية ؛ وهي التعميم في مسائل كثيرة تحتاج إلى تفصيل وتأصيل كمسائل ( التشبه ) ، و ( الحكم بغير ما أنزل الله ) ، ( الاحتفال بأيام مخصوصة كيوم الميلاد ، ويوم الأم ، واليوم الوطني) ، و( الموقف من المخالف في العقيدة ) ، و( الولاء و البراء ) وغيرها من المسائل ، وهي في مجملها ساهمت في تأزم النظرة الدينية لدى قطاع عريض من المتدينين تجاه الواقع المحلي والدولي . فبالنسبة لهذه المسألة فالإجماع متحقق على جواز بر الكافر غير المحارب ؛ لقوله تعالى ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون )) لكن الإشكال المختلف فيه هل يجوز محبته ، كمحبة صديقك الكافر ، أو زوجتك الكافرة ؟ يخلط كثير ممن يتحدث في هذه المسألة بين ( الموالاة ) و( الحب والمودة ) ، ف( المولاة ) أعم من مجرد المحبة فهي تشمل المحبة والنصرة والتعاضد ، فقد تنفرد المولاة بالتعاضد والنصرة من دون محبة ، مثالها قد ينصر المسلم الكافر على المسلم مع محبته له ، أو ينصره على المسلم لمجرد مصلحة دنيوية مع بغضه له ، وكلتا الصورتين محرمة وتنطبق عليها وصف الموالاة . ولا تسمى موالاة من دون وجود نصره وتعاضد ، سواء وجدت معها محبة أو من دون محبة ، و ( موالاة الكافر ) تضافرت النصوص على تحريمها ، وأجمع العلماء على هذا التحريم ، بل ذهب بعض العلماء إلى أن موالاة الكفار تعد ناقضا من نواقض الإسلام ، وقد رأيت غالب الأدلة التي يوردونها تدور حول ( الموالاة ) كقوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وأبناءكم أولياء، إن استحبوا الكفر على الإيمان. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الكافرين)). ((والذين كفروا بعضُهم أولياء بعضٍ. إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ)). و قوله (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ) ، هذا بالنسبة للموالاة . ومن هذا الشرح للتفريق بينهما نستنتج أن الاستدلال بآيات تحريم الموالاة على تحريم المحبة التي تكون من دون نصرة وتعاضد ضد المسلم لا يصح . وماذا عن ( الحب والمودة ) ؟ وهنا أيضا وجد في بعض الأطروحات تعميما ، فيجعلون ( الحب والمودة ) نوعا واحدا ، ولهذا يقعون في إشكال لا يستطيعون الفكاك منه أبدا سأورده بعد قليل ، والحق أن الحب والمودة هنا أنواع وهي : 1- محبتهم لسبب ديني كأن يحب الكافر لكفره ، وهذا لا يتصور وقوعه من مسلم أصلا ، لأنه لا يحب شعائر الكفر الصريح إلا من هو مؤمن بها . 2- محبة من حاد الله ورسوله ، وهذه محرمة بدليل آية المجادلة (( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم )) والمحادة هنا أمر زائد على مجرد الكفر ، والمحادة هي إظهار العداوة بالحرب ، أو التنقص من الإسلام أو الدعوة للكفر ، و حفاظا على ترتيب الفكرة سأذكر بعد قليل السبب الذي جعلني أفسر ( المحادة ) بأمر زائد على مجرد الكفر . 3- المحبة الطبعية الفطرية للكافر غير المحاد التي تنشأ من المعايشة والمزاملة في عمل أو دراسة أو غير ذلك ، أو من البر والإحسان أو من الزواج بالكافرة ، فهذه هي موضع الخلاف ، وهي التي طرحها الأستاذ حمد الماجد فهذه جائزة بلا أدنى شك ولا ريب ، والقلب منشرح بذلك والحمد لله ، والأدلة القطعية من القرآن الكريم تشهد بذلك ؛ ومنها : الدليل الأول : قوله تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم (( إنك لا تهدي من أحببت )) ويعني بذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه الكافر أبي طالب ، وهي محبة طبعية فطرية لأن أبا طالب كان مناصرا للرسول صلى الله عليه وسلم ، ونزلت هذه الآية فيه قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ((أي : هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية ، وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان يحوطه وينصره ، ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا طبعيا لا شرعيا ، فلما حضرته الوفاة وحان أجله ، دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان والدخول في الإسلام ، فسبق القدر فيه ، واختطف من يده ، فاستمر على ما كان عليه من الكفر ، ولله الحكمة التامة . )) الدليل الثاني : من الثابت بالدليل القرآني وبإجماع العلماء إباحة زواج المسلم بالنصرانية وهي كافرة ، وإذا قرنت ذلك بقوله تعالى (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )) وقد جاء في تفسير هذه الآية ؛ قال القرطبي ((\"وجعل بينكم مودة ورحمة\" قال ابن عباس ومجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد؛ وقاله الحسن. وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة؛ وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء.)) وفال الطبري ((وقوله : وجعل بينكم مودة ورحمة ؛ يقول : جعل بينكم بالمصاهرة والختونة مودة تتوادون بها ، وتتواصلون من أجلها ، ( ورحمة ) رحمكم بها ، فعطف بعضكم بذلك على بعض )) وفي تفسير ابن كثير ((من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم ، وجعل بينهم وبينهن مودة ؛ وهي المحبة ورحمة وهي الرأفة فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد أو محتاجة إليه في الإنفاق أو للألفة بينهما وغير ذلك )) ، إذن هذه الآية تنص على أن الله يجعل في قلوب الزوجين مودة ورحمة لبعضهما ، ونستنتج من الجمع بينها وبين آية المائدة التي تبيح الزواج من الكتابية الكافرة أن المسلم المتزوج بنصرانية يجوز له محبتها ومودتها بل الظاهر أنه يستحب شرعا له مودتها ؛ لأن في ذلك استمرارا للحياة الزوجية وتمام السكن بين الزوجين ، وهذا من مقاصد الزواج في الإسلام . ثم إنه من الجمع بين هاتين الآيتين وآية المجادلة ((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم )) يتضح لنا معنى ( المحادة ) وأنها تدل على معنى زائد على مجرد الكفر ، ويؤيد هذا سبب نزولها ، جاء في تفسير ابن كثير ((وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره : أنزلت هذه الآية ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر ) إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ، حين قتل أباه يوم بدر ولهذا قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة ، رضي الله عنهم : \" ولو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته \" . وقيل في قوله ( ولو كانوا آباءهم ) نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر ( أو أبناءهم ) في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن ، ( أو إخوانهم) في مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ ( أو عشيرتهم) في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة يومئذ ، والله أعلم ، قلت – القائل ابن كثير - : ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين في أسارى بدر فأشار الصديق بأن يفادوا ، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو العم والعشيرة ، ولعل الله أن يهديهم . وقال عمر : لا أرى ما رأى يا رسول الله ، هل تمكني من فلان ؟ - قريب لعمر - فأقتله ، وتمكن عليا من عقيل وتمكن فلانا من فلان ، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين . . . القصة بكاملها)) أ ه ، وما ذكره ابن كثير من سبب النزول يؤيد أن المحادة هنا المقصود بها أمر زائد على مجرد الكفر ، ثم إنه لو كان مجرد الكفر يصدق عليه ( المحادة ) لكان هذا مناقضا لآيتي ( جعل بينهم مودة ورحمة ) ، و( إنك لا تهدي من أحببت ) ؛ فكيف ينص على أنه جل وعلا يجعل في قلب الرجل مودة لزوجته الكافرة ثم ينهى في موضع آخر عن ( المودة ) للكافر ، وكذا كيف يخبر عن خليله محمد أنه يحب عمه الكافر ؟! إذن هاتان الآيتان تدلان دلالة قطعية على جواز محبة الكافر غير المحاد ، وهذا دليل نقلي ، وأما الدليل العقلي فإنه ثبت بالتجربة أن النفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها ، ولا يستطيع المرء أن يمنع قلبه من محبة من أحسن إليه وأكرمه ممن يعاشره أو يزامله في عمل أو رحلة ، أو دراسة من الكفار غير المحادين ( وأما المحادون فلا يجوز له مزاملتهم ومعاشرتهم أصلا ) ، وأشد من هذا محبة الزوجة الكافرة الجميلة والمطيعة لزوجها وذات الخلق الحسن معه ، ومن قال إنه يحبها حبا طبعيا ويبغضها لأجل كفرها فمحصل قوله : أن الله يكلف عباده بما لا يطاق ، بل يكلف عبادة بالمستحيل ؛ لأن الحب يترتب عليه القرب والتلذذ ، والبغض يترتب عليه البعد والنفرة ، ويستحيل الجمع بين هذين العملين المتناقضين ؟؟!!!!!!!!! والخطأ الذي يقع فيه من قال بمثل هذا أنه لم يتصور أن ( الكفر ) وصف قائم بالذات ، مثله مثل كل وصف مكروه كوصف البخل ، أو الكذب ، أو الفسق أو غيره ، فالكره متوجه لذلك الوصف وليس للذات نفسها ، فأنت تحب أباك حبا فطريا لكن تكره فيه صفة البخل ، أو صفة الفسق، أو صفة الكفر ، وتحب زوجتك المسلمة لكن تكره فيها صفة سلاطة اللسان مثلا ، ويقال مثل هذا في الزوجة الكافرة فأنت تحب زوجتك النصرانية وتكره فيها صفة الكفر لكن يستحيل أن يتوجه الحب والبغض للذات نفسها ؛ فيستحيل أن تحب أباك وتبغضه في الوقت نفسه ، ومثله أن تحب زوجتك وتبغضها وتنفر منها خاتمة ------- بعض الباحثين يورد إشكالا فيقول : وكيف نقول الكافر غير المحاد لا نبغضه فإن قاتلنا أبغضناه، فأصبح الوصف المؤثّر هو غيرتنا على أنفسنا وليس لأجل ربنا وديننا؟ قلت : و هذا القول كلام عاطفي غير علمي إطلاقا ، ويقال فيما لو أننا قلنا بجواز محبة الكافر غير المحاد من دون دليل ، لكن حينما نستدل بالنصوص الشرعية فلا وجه لمثل هذا الاعتراض ، لو أن مثل هذا الكلام العاطفي يستدل به مع وجود الدليل الشرعي على خلافه لصح أن يقال لمن تزوج بكافرة : كيف تتزوج بامرأة كافرة يبعضها الله وتنفق عليها وتحميها ، وهي تسب الله بزعمها أن له ولدا ، ولو أنها سبتك أو سبت أباك لطلقتها فكيف تكون غيرتك لأبيك أو نفسك ولا تكون غيرتك لله ؟!! ومثله يقال فيمن برالكافر غير الحارب ( وهذا متفق على جوازه بنص القرآن ) فعلى طريقتك يقال سبحان الله كيف تبر وتقسط إلى كافر يسب الله ويزعم أن له ولدا ولو سبك أو سب أباك لم تبره أو تقسط إليه ، كيف تكون غيرتك لنسفك ولأبيك ولا تكون لله ؟!! أريت أن الكلام العاطفي لو أخذنا به لأمكن طرده في كثير ممن نتفق على جوازه . والله المستعان د سليمان الضحيان كاتب وأكاديمي في جامعة القصيم