من جملة من عرض لهم أدونيس في أطروحته (الثابت والمتحول) الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله والمثير أنّه تعاطى معه باستقلالية مفرطة ودون الامتثال لإملاءات المؤسسة اللادينية إذ كان إيديولوجياً ولا مؤدلجاً وهذا ما يثبته أدونيس في كثير من كتاباته المضادة للخطاب الديني والنسق الثقافي. القليل هم من استجابوا بشفافية لمعالجة أدونيس في هذا الكتاب لتحريم التصوير عند علماء المسلمين والذي تركز أكثر في المدرسة السلفية المعنية بنبذ ما من شأنه التشويش على العلاقة التوحيدية بين الإنسان والرب. فأقام أدونيس درساً مهما حرّر حقيقة التشويش باقتدار فلسفي مفجّراً ثنائيات المقاربة يؤكد من خلالها على أن الصورة كانت وسيلة التعبير الوثنية عن المطلق بل وأقام الوحدانية في الطرف النقيض للتصويرية ومعبراً عنها ب (الكلمة). إذاً الكلمة والصورة كانتا مادتي أدونيس للبرهنة على نفي التوحيد عن الصورة بوصفها الانطباع الطبيعي لتحقيق التواصل المشروع بين العبد والرب فالصورة انطباع حسي وانعكاس لموجود سابق في حين أن الكلمة انطباع تجريدي وتسمية للأشياء والواقع. والأزمة هنا ليست توحيدية فحسب بل جمالية ، يقول : (فالجميل في الإسلام هو ما لا يمكن تصويره) و(لا يمكن احتواؤه في أي شكل محسوس) ولأن (النظرة التجريدية ترفص المحسوس وإغراءاته). ما سبق هو تخليص لرأي أدونيس لخطر التصوير ذي الصلة بالروحانيات تحديداً غير أن هذا التناول الخاطف يفتح باباً لإشكالات شتى من التعاطي مع سلطة الصورة على مفاصل الحس المتعالقة عضوياً بمنظومات التفكير والخيارات الثقافية والوجودية. وإذا كانت قضية الصورة وهيمنتها على آليات التلقي الثقافي قد بُسطت في جدل نُقّاد ما بعد الحداثة بوصفها خيار مطلق إلاّ أنّ أدونيس قدّمها كطرف في ثنائية إشكالية واستحث (الكلمة) ليدمجها بعنف في هذه الجدليات. هل التصوير والصورة بكل ملابستهما الحِرَفيّة واللونية والنقشية والنحتية كانا الفاعلين النافذين في زعزعة وعي الإنسان الأول وجذبة من رحابة الكلمة إلى ضيق الصورة .. وهل كانت الأزمة هي أزمة مساحة تلقي يضيقها الإنسان ليقلل من خيارات تحددها ألوان الصورة وإيحاءاتها وعند الخيار الأخير تظهر أول فرضية لنهاية الإنسان إذاً فأول فرضية لنهاية التاريخ كانت تطرح في صيغة إنسان يسجد أمام صورة. من المؤكد أنه لا يوجد إنسان غير عاقل استشعر الخطر وحافظ على مكتسباته وكم من صورة مجسمة وغير مجسمة أقنعت حكماء بأنها كلمة بل كلمة الله الأخيرة. فوقعوا على ركبهم سجّداً بعد أن فعل الإدارك البصري الخادع فعله الروحاني وأعاد ترتيب الوعي فتغيرت قبلة سجودهم ولم تتغير طاقاتهم العقلية وبقوا حكماء كما كانوا. يقول أدونيس أن الدين كلمة وليس صورة ولكي نعي أكثر ما لهذه التنافسية المحمومة من عمق يجدر بنا تناول البعد الرمزي للتجارب والذوات الروحية من زاوية صوفية بحته منذ الإنسان الأول إلى آخر حالة احتفاء طقوسي بالصورة على صعيدها الفني الإبداعي أو المادي الرمزي. ولا يتم هذا الاحتفاء إلا بإفراغ المشهد الرمزي من آخر قطرة تأثير للكملة وأبعادها التجريدية التي تفرض وصياتها على الوعي والذي تحرر بالامتثال الوجداني لإيحاءات الصورة. وإن استفرغ التاريخ كل تجاربه مع هذه الحالات الروحية الاستثنائية بدءاً بأول صورة صخرية ليغوث ويعوق نسر وانتهاءً إلى آخر ضريح أتخذ صيغة الصورة من حيث هو إبداع فنان ومتخصص لإنجاز هكذا أعمال فنية .. إذاً القبر كلمة يأخذ شكل الصورة بتدخل إبداعي يضيف لتجريد الكلمة ملابسات أو تدخلات تحدث شيئاً في الخطاب الإيحائي ومن ثمّ الثقافي يتلقاه الحس الرعوي الكسول ويرحب به لأنه متناعم مع هندسة الباطن لدى من هو من منغمس في الجمال أو مفتقر إلى أبسطه وهنا يحدث التأثير والتأثر من زوايا مظلمة في اللاوعي لا سيما أن الصورة اللونية أو الجسمية ذات الأبعاد هي إضفاء جمالي ينقل طرف (الكلمة) الذي يلعب دور المرسل إلى درجة جمالية أعلى وهذا أدعى لقبول الذوق الإنساني. ومما أذهب إليه أنّ ثمة مستوى تصويري لا يقل إثارة من اللوني والمجسم وهو المتخيل ذو الخلفية التصويرية المادية وهذا تأييد لقول أدونيس أن الصورة انعكاس حسي لموجود سابق وبالتالي فالمتخيل هو انعكاس حسي لموجود تصويري سابق. إن التعامل مع أي رمز ديني على نحو تصويري أو تخيل تصويري هو نقلة جمالية فارهة يصاحبها تبدل في وعي التلقي بل في أدواته إذ الكلمة كمرجعية تشريح تحتكم على أدوات خاصة عمادها الامتثال والاتباع في حين أن الصورة بكل كثافتها الإيحائية تنطوي على كم هائل من الكلمات تزدحم بين قوي وضعيف يختار الحس أضعفها ويختار العقل أقواها ويحدث الابتداع في اضطراب التعامل مع معطيات الجسم واللون والصورة . والوثنية لم تبدع نمطها الثقافي باتجاه الإنسان نحو التصوير إلا وهو في حالة حاجة ملحة يلوذ بمن يقضيها له وفي هذه الحالة يضعف العقل أمام الحس إذ العقل يمر بحالة عجز عن تحقيقها كطلب الخوارق والمستحيلات وعندها يحضر الحس بوصفه مَحْضِن المتخيل الذي يتعاطى بمهارة مع الخوارق والمستحيلات. والواقع هو تجلي حضور الموجودات والصدق هو الواقع والموجود محسوس والرب عز وجل موجود لكن ليس له حضور مادي في الموجودات غير أن المادي المعبر عن وجود الله محسوس ويمكن لمسهُ وعندها يفعل المتخيل فعله في إمكانية تكثف الغيبي في المحسوس فتتكون أبعاده في صورة وثنية أو صنم أو ضريح رخامي ذي هالة وقدسية فإذا لمست أي منها فإنك تكون قد لمست الغيب. وهي أكسل وأسهل مسلك لبلوغ الغيب دون تكلف عبادي. المتصوفة الفلسفيون يؤكدون كما يذهب ابن عربي إلى ضرورة تحجيم دور العقل لبلوغ المطلق الإلهي إذ العقل خدعة بل يمض ابن عربي إلى تعطيل دور الكلمة كمحور للتشريع واستبدالها بالتأمل والحسى هنا يبرز من جديد خيار الصورة كمنافس تشريعي للكلمة. وقبل أن أنهي فكرتي في اختلاط الكلمي والصوري عند استقبال المؤمن للإشارات الإلهية أبسط مثالاً عن أهم رمز روحي تاريخي تعرض ككلمة إلى هذه الانشطارات وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو نبي ورسول وموجه وإنسان وبطل ومشرع ذو علاقة خاصة بالسماء وعليه فإنه ذو أبعاد مهمة يغلب عليها الشرعي والرمزي أو الكلمي والصوري وتتدخل الحاجة الإنسانية البحته في تغليب جانب على جانب إضافة إلى سيطرة العلمي العقلي أو الحسي الصوفي في مراجعة هذه الشخصية الأنجح في تاريخ الإنسانية. وتبرز في هذا التناول السلفية ذات المنطلق التجريدي الرافضة للمحسوس الصوري وإغراءاته وتحدد علاقتها بالنبي بالاتباع والحب إذا هي لا تعترف بجانب رمزي غير تشريعي توجساً من ذوبان الكلمة في الصورة في حين أن المتصوفة استبدلوا علاقة الحب بالعشق وهذا مؤشر حاسم على الحضور الصوري للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوعي إذ العشق في أول أمره علاقة بين طرفين كلاهما محسوس ، أحدهما عاشق صوفي وآخر نبي أو وليّ تم تأسيسه صورياً على الواقع أو المختيل فاكتملت الشروط الحضورية للعاشق والمعشوق فالعشق الخالص إذاً يحضر مع الصورة ويتلاشى مع الكلمة الصارمة في ترتيب هذه الممكنات الحساسة. إن الصورة في معركتها لإزالة الكلمة وانتصارها للرمزي على التوحيدي الشرعي بلغ أوجها عند المتصوفة الذي لا يبالون كثيراً في العبادة بسبب سلطة ثقافة الصورة إذ الصورة صامتة دائماً فكيف يتم تلقي التوجيه من الصامت الأصم. إن طغيان الحالة التصويرية يبلغ مداه في الحالة الحضورية للنبي في الحضرة النبوية في الموالد أو المعية النبوية في جلسات الذكر الصوفي وكل هذا من الطمأنينة على وجود حقيقي لعالم الغيب .. هذه هي سلطة الحسي على الشكيّ وكل محاولات لبلوغ الجمال المطلق. وانتهى منتصراً لثقافة (الكلمة) ومنتصراً لأدونيس في مقولته (الجميل في الإسلام هو ما لا يمكن تصويره). محمد بن عبد الله الهويمل - الرياض