لا يتباعد التركيب السريالي عند محمد عفيفي مطر الذي يعتمد على التدفق الآلي للاوعي، أو ما يسميه البعض بالكتابة الآلية، عن بنية الأحلام التي هي بطبيعتها من نتاج اللاوعي الذي يفتح أبوابه في حالات النوم، فينتج للحالم صوراً لا تخضع لرقابة عقله الواعي في حالات اليقظة، فالحلم تحرر من رقابة الوعي، وإطلاق لسراح المكبوت تحت سطح الوعي في قارات الأعماق، أو أطلنطيس الشعور هكذا نقرأ هذا الحلم: «هذه امرأة تتغطى بأوسمة العري، قشُّ تطاول من إبطيها، وحلفاء شمس بهيجة ضربت قبة من خشونة أوراقها فوق شمس الزبيب القيمة في الفخذين الشهيين». وتعبير «الحلم» عن المكبوت الجنسي واضح في هذه الصورة التي لا تظهر فيها المرأة عارية تماماً، بوصفها موضوعاً للرغبة، فمن الواضح أنه حتى في أعماق الحلم يوجد نوع من الرقابة، تجعل من العري الكامل نصف عري، كي تمر الصورة على رقابة الحلم، فتتغطى المرأة بأوسمة العري الذي يشبه مزق الثياب، ويتحول ما تحت الشعر إلى قش يتطاول، لكن يبقى مصدر اللذة مغوياً، يخايل حاسة البصر والذوق على السواء، مضيفاً العناصر الحسية الأخرى الكامنة في الصورة، مؤكدة انتصار مبدأ الرغبة على مبدأ الواقع في الحلم وهذا ما نراه في حلم آخر نقرأ فيه: «كنت وحدي أشرب الظلمة والطل وأغفو في خلايا قامتي المنغرسة تاركاً وجهي ينحل وأعضائي تذوب في اختلاط الحلم في بوتقة الدهشة عند العتبة أدخل الباب أرى شهوة أيامي خيولاً وأرى الأشياء في لون العيون الشرسة وأرى قبل ابتداء الأرض غيماً مثقلاً تحت سماء مشمسة وأرى الساحة منديل دم مشتعل يطفو ويطفو في كتاب الغرق وانتظار السنة الكبرى لكي تبدأ في رقصتها المزدوجة». ومن المؤكد أن هذا الحلم أكثر تعقيداً من سابقه، وأول ما ألحظه هو غياب الرقابة اللاواعية، إذا صحت العبارة والملاحظة الثانية هي نسبة الصفات إلى ما لا تنسب إليه، تشخيصاً وتجسيداً، فالظلمة كالطل قابلتان للشرب والذات الناطقة، في الأسطر، تغفو في خلايا قامتها، والقامة كالرمح منغرسة في لا وعي الحلم، وتحولات الحلم تمارس فعلها السحري على مستوى التحول، فتترك الحالم على أعتاب الدهشة التي يدخلها، فيرى ما ليس يكون يكون، فيطفو كالغريق باحثاً عن نجدة، ونجدته هي السُّنَّة الكبرى التي لا تغادر دورة الكون بين الوجود والعدم، الخصب والجدب، الموت والحياة ويبدو مبدأ الرغبة واضحاً في استدعاء دورة الكون لتنقل الذات من الموت إلى الحياة، ومن الحضور إلى الغياب، فالحلم يدعو الشاعر إلى الغوص عميقاً في أعماق محيطات اللاوعي، كما يدعوه، مثل الرؤيا الصوفية إلى التحليق في أجواء الشعر والفلسفة والتصوف، فتتحول الخرافة الشعبية وأحاديث الطمي لتغدو بعض مكونات التمازج الصادم بين عوالم الحلم والواقع العبثي الذي يشبه لوحة سوريالية، مفارقة لمنطق العقل، على نحو يبعث إلى اللجوء للتصوف، ولكن داخل سياق أكثر حرصاً على النظر إلى المحلى من خلال الكوني والعكس، والمزج بين التصوف وفلسفات الوجود وأسئلته الكبرى، ابتداء من «النهر يلبس الأقنعة» الديوان الذي كان بداية التحليق الكوني في أجواء الشعر والفلسفة والتصوف، والغوص عميقاً في اللاوعي الشعري، لكن بما أخذ يصعد بالمكابدة الصوفية شيئاً فشيئاً في الدواوين التالية كأننا انتقلنا من مرحلة تصوير الواقع شعرياً في الدواوين الأولى إلى التحليق فوق الواقع والغوص فيه بما يكشف عن جذره الإنساني، واصلاً المحلي بالكوني، محيلاً الرؤية إلى رؤيا، والوقائع العيانية إلى أحوال ومقامات، أخذت تعلو على كل شيء حتى وصلت إلى كشفها الكبير للكون في «رباعية الفرح» وذروة تجلى الحقيقة في «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» هكذا أخذنا نقرأ: «غلبني الحال واعتورتني واردات الحواس وعوارض المشاهدة، وكتاب الأرض يتقلب بين التأويل فألملم من صدأ الحروف قائم الأمر وفسحة البصيرة». في مثل هذه الأحوال المعرفية، تتنزل الحقيقة كلية الحضور من محلها الأرفع لتتجلى للعاشق الذي كابد العشق طويلاً، وصعد المعراج محتملاً مشاق الرحلة، متخلصاً شيئاً فشيئاً من أدران الجسد، إلى أن صفى وجوده وشفّ، فاستحق الرؤيا، ولقاء من هبطت إليه من محلها الأرفع تورية شف إيحاؤها عن طلاسم ما كانت تقبل التفسير إلا في هذا المقام الذي تتفتح فيه قوارير عطر تعتق في أزل الشرق، فيذهل العاشق من سطوة المقام واللقاء، ولا يملك سوى الإشارة إلى ما يرى بالاستعارة والكناية، مؤكداً أنه إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة. «كانت كمائم ورد حرير تشف وتبرق منها كنوز السلائب من أرق المصطفين يد رعدتي واشتهائي يد ومجاز العشيرة تسقط عنه الغلائل تشرق لي من كنوز السلائب جوهرة وامضة أحل حرير طلاسمك البكر ألتف في سحرها أتلفظ منها عطايا غرائبها طية طية والإشارات شفت مجازاتها، أخذتني بروق من الوجد والخوف وانقدحت آهة تتنزل بالدهشة الواعدة وكفّاك من رحمة الغيم تستبدلان دماً بدم وسماءً بأخرى، تخطان فوق جبيني أرضاً هي المحو للعمر والطلع في نخلة للبدايات والفجر». ولعلي لا أغالي لو قلت إن هذه إحدى المرات القليلة التي أمتعنى فيها وصف مشهد الكشف الصوفي على هذا النحو الذي جعلني أكاد أكون شاهداً عليه ومنفعلاً به، وذلك في ذروة من ذرى التجلى التي وصل إليها شعر محمد عفيفي مطر، فوصل إلى رؤياه الفريدة، وكشف عن أفق خاص به تماماً، مسجلاً استحقاقه لأن يكون بين كبار الشعر العربي الحديث الذين جذبهم الكون الصوفي، ووجدوا في التجربة الصوفية من الأبعاد الواعدة ما أثرى تجاربهم ورؤاهم صحيح أن أدونيس والبياتي وصلاح عبدالصبور سبقوا محمد عفيفي مطر إلى فتح الكنز المحجوب للتصوف، وصحيح أن محمد عفيفي مطر سار في إثرهم، ولكنه بتركيبته النوعية وخصوصية تكوينه الثقافي استطاع أن يعثر على كنزه الخاص الذي جعل قامته تطاول قامتهم، حتى وإن لم تتساو بها في كل الأحوال، وصوته يتميز عن أصواتهم وإن لم يتفوق عليها لم يعل عليها في أغلب التجليات، فقد ظل حالة فريدة من التميز التي تدنو به إلى القمم الشاهقة وتباعده عنها في آن، دون تقليل من خصوصية إنتاجه أو تفرد قيمته، فقد كان محمد عفيفي مطر، بحق، واحداً من الشعراء الكبار، في شعرنا العربي المعاصر، ومقام الكشف الذي استشهدت به واحد من الدلائل التي تشير إلى قيمة الإنجاز الخاص به. ولنعاود قراءة مقام التجلي السابق، ولنلاحظ، أولاً، لغته البصرية بمفرداتها الحسية وصورها البصرية التي تضعنا في قلب المشهد، كأننا رائين له ولنلاحظ، ثانياً، التدفق الإيقاعي المقترن بالتدفق الانفعالي الذي يفرض على المقام تدويراً عروضياً لا بد منه، خصوصاً في اللحظات التي لا يمكن اختزالها في تتابع جمل مقفلة، كل جملة تستقل بنفسها نحوياً وعروضياً ولنلاحظ، ثالثاً، الإلحاح غير المقصود بالقطع على الميراث العربي الإسلامي، كأنه تحديد لا واع للهوية، ابتداء من مجاز العشيرة وليس انتهاء بنخلة البدايات الملازمة لدلالة الفجر بإيحاءاتها القرآنية التي لا يمكن استبعادها في عملية التناص وأضف إلى التدافع العروضي التوزيع الرياضي بين الجمل الاسمية والفعلية، على نحو يحقق التوازي بين اندفاع الحركة وتهدئتها وإلى جانب تكرار الكلمة والصيغة في مواطنها الملازمة، هناك المراوحة بين الاستعارات المكنية والمرشحة، وتواشج الصور الصغرى بما يجعل منها صورة كلية، تتدرج صاعدة إلى ذروة هي نوع من المحو للماضي، وولادة جديدة لفجر زمن واعد أما عن تداخل الصور المجازية وتولد واحدة من الأخرى في امتداد صاعد فهو غواية دلالية، تدفع القارئ إلى فك شفرات الطلاسم البكر أو الالتفاف حول سحر الإشارات التي تشف مجازاتها ليدركها وجدان القارئ وشعوره إزاء تتابع بروق الوجد والخوف التي تتنقل من الأسطر المقروءة إلى القارئ المتأمل الذي لن تفارقه الدهشة من طزاجة التراكيب وفرادة الصور وتدافع المجازات والإيقاع في لحظة تجل كاشف إلى أبعد حد هي نفسها نوع من انبثاق الشعر في المَحْل، أو الحياة في الموت، أو الوجود في العدم إنها رؤيا آخر العاشقين العظام للشعر والتصوف الشاعر القادر على أن يقول: «هي الأحوال ومقامات العذاب، محنة يغلي دم القلب بها وتحترق اليد، فالجراحات يتفتحن قطوفاً دانية من مواهب النعمة وأعطيات الإرادة الطيبة والانتظار السمح الرحيم». والتضمين العروضي قرين التدفق الشعوري والدلالي الذي يصل بين «المقامات» و«الأحوال» في العذاب الذي يعانيه القلب احتراقاً، وتتلهب به أصابع اليد كتابة، لكن جراح قلوب العاشقين تنبت، دائماً، ورود المحبة، وقطوفاً دانية من نعمة الفيض، مقرونة بعطايا الواهب الذي يدنى رعاياه إلى رحابه، تاركاً إياهم في فضاء الانتظار السمح الرحيم أما نحن القراء فندرك أحوال هؤلاء العشاق، الباحثين عن المعرفة الكلية، والحقيقة المتعالية، بمشاعرنا وتعاطفنا الذي يتيح لنا فهم ما قد يصل بهم إليه التجلي، وما يمكن أن تفيض به مقامات الكشف على لسانهم، خصوصاً في اللحظات التي يصبح فيها العاشق هو المعشوق، والنسبي هو المطلق، فتفيض سكرة التجلي على اللسان، قائلة: «هذا أنا ملك الوقت تلتم فوق بساطي الخليقة أدخل في كل بيت، وفي كل بيت رعاياي ألبس طمي القرى خاتماً ولساناً لسطوة قلبي ومدرجة لبلادي التي سوف تشهد هذا هو الصولجان الذي يغزل الريح والبر والبحر فلتأكلوا ما زرعتم أقيموا ولائم عهدي فهذي هي النار ترفض أثوابها وتمد خطاها على فرح الأسئلة فتمنحها شكلها في مرايا البلاد». والفارق بين لغة الشطح في الأسطر السابقة وما ينطقه قناع الشاعر النبي أو الرائي العراف فارق ضئيل، يرد الاثنين إلى صورة النبي المناضل كما فهمها محمد عفيفي مطر وتصورها قناعاً لفرد متميز، تمتزج ملامحه الصوفية بملامحه الرومانسية الثورية، فهو فرد من شعب، مناضل بين مناضلين، وسجيناً مقهوراً معذباً بين محكومين، وجائعاً مكابداً بين ومع جموع الأهل وحشود الفعلة وطلائع الأمل والعمل هذه كلمات محمد عفيفي مطر بنصها، ولكنها لا تنفي تمايز هذا النبي المناضل عن بقية المناضلين الذين يتبعون رؤاه ورسالته، كأنه واحدهم وهم أعضاؤه انتثرت، سواء بمعنى تعددت أو توزعت أو حتى تشرذمت، فالمهم أن الشاعر الذي يصل إلى هذه الحالة من الوجد الصوفي، أو يرتدي قناع النبي المناضل لا المجهول يظل نائباً عن أشياعه، كالبدر: «أفرط في العلو وضوؤه/ للعصبة السارين جد قريب». المتصوف الثائر هو الوجه الآخر من المتنبئ المسلح في الأسطر السابقة، ما ظل وجوده المغاير فعلاً من أفعال الخلاص والخصب الذي يتخذ معنى كونياً وبشرياً على السواء، فحضور هذا الشاعر الفيزيائي صحوة الحياة المقترنة بطلوع الشمس على الكون والأحياء، وحركة جسده طقس من طقوس الإخصاب الذي ينبثق به الماء من تحت الرمل، وصرخاته صرخة غضب الثائر الذي يفجر الحياة العارمة والدافقة لاندفاعة الفقراء الذين يغتصبون حقهم بالعنف باختصار نحن إزاء متنبئ ثائر، يبسط الخضرة التي لا يفارقها لون الدم الذي ينتزعها من عدم اليأس أو من جدب الظلم، ولذلك فالمتنبي الساحر إله وثني، شعره مطلع الشمس وخضرة أرض وأرجوحة عنف على السواء وهو في كل الأحوال مسؤول عن الفقراء الذين هو منهم وإليهم في كل أحوال تعاليه عنهم، أو بعده عنهم ليقربوا. ولذلك وصفت ملامح الذات الشعرية للشاعر بأنها تنطوي على نوع من الرومانسية الثورية المفارقة للواقع الحي البسيط، وأنها مجلى آخر للزعيم السياسي الذي صاغه المشروع القومي، حيث الفرد الملهم يقود الآخرين، وتتبعه الجموع من المحيط إلى الخليج، كما فعلت مع عبد الناصر الذي انعكس حضوره المتفرد القاهر على مرايا أكثر شعراء الخمسينات والستينات، كل على طريقته، وهذا ما فعله محمد عفيفي مطر، منذ قال لنا عن صباه: «تحددت معالم معركتي الشخصية التي أحتشد لها بكل قواي فألتهم الكتب، وأشرب مشاهد الدنيا بحرقة المسؤول عن كائناتها، وأنفض القواميس بحثاً عن دموع الإنسان وجمرات الغضب وحرائق الحرية في التاريخ من نسمة الهواء حتى الجنون، الأسير والصراخ المكبوح فتتسع الدهشة وتتوالد الأسئلة».