جاءت كلمات سماحة الشيخ صالح اللحيدان – حفظه الله - في البرنامج الإذاعي الشهير: (نور على الدرب) عن ملاك القنوات التائهة لتطلعنا على وجهنا الحقيقي، وتضعنا في مواجهة مع أنفسنا، قبل أن تضعنا في مواجهة حقيقية مع الآخرين ... لقد تابعت بشكل دقيق كلمات الشيخ اللحيدان، وتعقيبه الذي بثَّه التلفاز السعودي، وتداولته الصحف الورقية والإلكترونية بشكل لا يمكن وصفه، كما تابعت تعقيبات الموافقين والمخالفين، وانتهيت من هذه المتابعة الجادة إلى جملة ملحوظات، آمنت بأهميتها، ورأيت وجوب نشرها، ليناقشها القارئون والقارئات في هذه الصحيفة، ويتدبّرون معي معانيها ... الملحوظة الأولى : كشف كلام الشيخ اللحيدان عن ضعف في الاستيعاب لدى عدد كبير من مثقفي المملكة وإعلامييها، كما كشف عن تناقض بعضهم مع المبادئ التي كان يدعو إليها كحسن الظنّ، والحوار، واحترام الرأي الآخر، والتعاطي مع المخالفين بهدوء ...إلخ، ويظهر هذا بجلاء من خلال جملة الصفات المشينة التي خلعها البعض على الشيخ كالتشدّد، والتحريض، ودعم الإرهاب، وما إلى ذلك . لقد تركّب كلام الشيخ من (قد) التي تحتمل بدخولها على (المضارع) التشكيك أو التقليل - بحسب ما يحدده السياق-، ومن الحالية في مفردة (قضاء)، - أي أنه حكم بالقتل في حالٍ واحدة هي القتل قضاء - ومع ذلك تعامل كثير من المثقفين والأكاديميين مع هذا الكلام كما لو كانوا لا يعرفون معنى (قد) أو وظيفة الحالية، وتساووا بذلك مع من لا يعرف شيئاً من مفردات العربية، إن لم يتساووا بشكل أو بآخر مع غير الناطقين بها أصلاً (انظر: العشماوي، الجزيرة، 14/9/2008م). ومن مظاهر ضعف استيعابهم أيضاً تعاملهم مع كلام الشيخ اللحيدان على أنه فتوى، وهذا التعامل في حد ذاته مصيبة تدل على أنّ مثقفينا ما زالوا في طور البدايات التي لا تسمح لنا بالتعامل الدقيق مع مداليل الدوالّ العلمية، ومواقع المفردات من السياق، حتى لو صدرت هذه المفردات من رجل يعي جيداً ما يقول، ويقلُّ أن يحتمل كلامه مفردة ليس لها معنى، أو ليس لها محلّ من الإعراب !! كذلك كشفت الكلمات عن أنّ بيئتنا الثقافية مكوّنة من تحالفات تضع نفسها فوق كل اعتبار ومصلحة، فلأنّ المتحدث هو الشيخ اللحيدان – أحد أطول أعناق المدرسة الدينية في السعودية – فقد وقف زيد وعمرو على صعيد واحد يهتفون بالتنديد ويطالبون بالتوضيح، وأجزم جزماً لا يتخلله ريب أنْ لو كان المتحدث رجلاً سواه لعفا أولئك عنه، واستغفروا له الله العظيم !! وستأتي أمثلة على ذلك في الآتي. أين هو حسن ظنهم في (محمد عبده) يوم أن صرّح بأن النبي عليه الصلاة والسلام سعودي ؟ وأين هم من حقوق المرأة يوم أن أقدم أحد أتباع الجلبة الليبرالية على ضرب امرأة محجّبة ؟ و ما الذي يرونه في الشاعر السعودي الذي أساء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في الثمانينيات ؟ وأين تبريراتهم المضحكة لكل ضربة عقدية يتلقاها المجتمع من كاتب أوأديب أوإعلامي ؟ إنه من الواضح لكلِّ ذي بصر وبصيرة أنّ هناك هجمة منظمة على رؤوس المدرسة الدينية في المملكة وعلى جميع الأعمال التي يقومون بها، ومن الواضح أيضاً أن هناك نوعاً من الاتفاق بين كثير من الكتاب على إدارة هذه الهجمة، وأنّ هناك دعماً غير عادي يتلقاه بعضهم من بعض، وهذا ما أفضى به إليّ أحد أبرز الكتاب الليبراليين في المملكة، ولي مقالة سأنشرها لاحقاً تنقِّط الحروف، وتسمي كل ذات باسمها !! هنا سؤال مهم : حين صرّح أحد رموز الشيعة السعوديين باستعانته بإيران على بلاده مالم تحقِّق له مطالبه... قابله كتابنا الكرام بهدوء غريب، وكأنّ شيئاً لم يكن ...، لماذا لم يفعلوا الفعل نفسه مع الشيخ اللحيدان ؟! سؤال آخر : حين وصف الرئيس الأمريكي حربه على العراق بأنها صليبية، وحين ذكرت نائبة أمريكية قبل أيام أن جيوش أمريكا في العراق تؤدي مهمة كلفها بها الله سكت مثقفونا كلهم، واتجه كتاب صحفنا الليبراليون إلى الكتابة عن شحِّ الماء في عسير !! لماذا ؟! أريد أن أفهم : هل بات مؤكّدا أنّ بعض أقلامنا تعمل لصالح جهات خارجية ؟ هذا ليس اتهاماً، إنه واقع تعبر عنه أفعال وأقوال وأحوال، وكلي رجاء بأن يتحرف أحدهم ليشرح لي خلفيات هذه الظاهرة الغريبة، والتي يندر وجودها في أيّ مكان على ظهر هذا العالم . الملحوظة الثانية : لم أطلع – حتى اللحظة - على تعقيب واحد لمثقف سعودي أو غير سعودي، أو حتى لعامة الناس من السعوديين وغيرهم، كما لم أطلع على تقرير لقناة محلية، أو عربية، أو أجنبية، يعترض على وجود قنوات للسحر والشعوذة والفساد الأخلاقي العريض...، ولم يجرؤ أحد – وخاصة من أتباع التيار الليبرالي في السعودية – أن يكذِّب الشيخ في قوله بوجود قنوات تبثُّ المجون، أو الفساد بأنواعه...، وهذا يشير إلى اعتراف مبطَّن منهم بوجود هذا النوع من القنوات، وأنها واقع ملموس لا يملك أحد من الناس الالتفاف عليه . الملحوظة الثالثة : لم أطلع على تعقيب لعالم في الشريعة، أو مفكر، أو مثقف، أو إعلامي، أو حتى رجل عامي، يرفض ما قاله الشيخ اللحيدان رفضاً علمياً، بل إنني وجدت أكثرهم بعيداً كل البعد عن التعقيب على استدلال اللحيدان بقوله تعالى (أو فسادٍ في الأرض)، ولم يستطع أحد منهم – حتى الشيخ العبيكان نفسه – أن يناقش المسألة على وجهها من باب الفتوى، أو من باب القضاء...، وهذا اعتراف مبطّن من جميع هؤلاء بأن لقول (اللحيدان) ما يعضده في أصول الشريعة، وفي قواعد الفقه، وأبوابه المعروفة، ليس في الفقه الحنبلي فحسب، ولكن في مذاهب الفقه كلها دون استثناء، بل ربما بدت بعض المذاهب أكثر قوة في توصيف المفسدين، وأكثر جرأة في الحكم عليهم، وعلى من يريد مثالاً سريعاً أن يقرأ رأي المذهب المالكي في أهل الغناء، فضلاً عمن يروِّج في غنائه للكفر أو الفحشاء والمنكر، كما هو الشأن في كثير من القنوات الفضائية. الملحوظة الرابعة : كشفت كلمات الشيخ اللحيدان عن هشاشة كثير من أجهزتنا الإعلامية، وعن استخفافها بعقول المشاهدين، فمثلاً حين بثت إحدى القنوات الإخبارية الكبيرة كلمات الشيخ قامت بقطع كلمة (قضاء) لما لهذه الكلمة من أهمية كبيرة في السياق، وزادت على ذلك أن نقلت للمتابعين والمتابعات المقطع الصوتي مجرداً أيضاً من هذه الكلمة...، ومع أنّ ما جرى من هذه القناة أضحى واضحاً لكلِّ أحد، وليس محل غرابة عند الكثيرين، فإن أحداً من رؤوس المدرسة الليبرالية لم يتوقّف عنده بالنقد، ولم تُقْدِم جمعية إعلامية على التنديد بهذا العمل المشين من قناة يفترض فيها احترام المتلقي، وتبني عقيدة الحياد في نقل الأخبار إليه، والأخبار الثقيلة بوجه خاص ... وهنا أسأل : لماذا لم تقدم هذه القناة، أو إحدى قنوات المجموعة، على تبيان كلام الشيخ اللحيدان على وجهه، وشرح مقصوده من كلمة (قضاء)، أليس في ذلك ما يحفظها من تسلّط بعض الإرهابيين كما يزعم سدنتها ؟ لماذا انطلقت هذه القناة كالذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، تصرخ وتولول، وتطلب النجدة من الأشياع والأتباع ؟ لماذا لم يعبأ كثير من ملاك القنوات الفضائية بكلام الشيخ كما فعل مالك هذه القناة / المجموعة ؟ هل هو اعتراف مبطّن منه / منهم بأنّ ما يقدمه / يقدمونه داخل شرعاً وعرفاً تحت مصطلح الفساد حتى لو لم يسمِّهم الشيخ بأسمائهم ؟ مسألة تحتاج إلى قراءة واعية !! الملحوظة الخامسة : كشفت كلمات الشيخ اللحيدان عن ارتقاء غير عادي في مستوى التلقي لدى المتابعين في الخليج والعالم العربي، فلقد توصّلت من خلال متابعة أربعة مواقع كبيرة تناقلت كلام الشيخ اللحيدان إلى أنّ أكثر من 76 % يؤيدون هذه الكلمات، ويرونها متوافقة مع أصول الشريعة الإسلامية، وبريئة من التحريض والإرهاب، كما أنهم توقفوا كثيراً عند الهجمة الإعلامية، وحددوا مصدرها، ووصفوها بالتهريج، والفساد، وغياب المصداقية...، ولقد استبشرت كثيراً حين وجدت معقبا سعودياً من الطائفة الشيعية يتلقى كلام الشيخ اللحيدان بالقبول، وليس مدار هذا الاستبشار اتفاق هذا المعقب مع الشيخ، ولكن لأنه استطاع بما لديه من وعي أن يقفز على نفسه وثقافته وأن يحكِّم القرآن والسنة في هذه المسألة المهمّة (انظر موقع الوفاق). الملحوظة السادسة : شكّلت كلمات الشيخ ضغطاً ثالثاً على إحدى القنوات التي ما فتئت تتجاوز عقيدتنا وأخلاقنا، في كثير من برامجها، فاضطرّت إلى الاستجابة للشارع العربي والسعودي تحديداً، وفرض رقابة على مسلسلاتها، ليس على الصورة فحسب، ولكن على الكلمة أيضاً...، بل لقد سارع أحد الممثلين إلى تقديم اعتذار مزركش بالاعتراف، ومذيّل بوعد – أرجو أن يكون صادقاً – بعدم العودة إلى مثل هذا...، وهذا شكل من أشكال تطور الوعي الشعبي في مجتمعنا؛ حيث بدا المجتمع في هذه الحالة اليتيمة هو الموجِّه للإعلام وليس العكس، واضطرّت هذه القنوات التي كابرت في سنوات مضت إلى الاستجابة النسبية لآراء المجتمع وتوجّهاته...، وهذا الشيء لا يحسب للقناة ولكن يحسب للمجتمع الذي أقدم عدد من أفراده على حجبها بعد كلمة ( في اللي أنت خابر) حتى وهي تتصدّر قوائم القنوات من حيث نسبة المتابعين، في إشارة منهم سريعة إلى أنّ الدين والأخلاق فوق كلِّ شيء . بهذه القوة ستكون قنواتنا في القابل أكثر وعياً، وسيكون المتلقي أكثر إيجابية، بحيث يحدد ما يجوز بثه وما لا يجوز، ويصوغ مفردات البرامج رغماً عن ملاك القنوات، بدلا من هذه الحالة الراهنة التي تملي على المتلقي كلّ شيء، بمجرد أنْ يجيز بثه من لا يملك حظاً في أصول صناعة الصورة، فضلا عن صناعة الأخلاق والقيم !! وهنا أودُّ الإشارة إلى أنّ عدداً من كتابنا الكرام وقفوا في وجه هذا الفساد الذوقي بعد أن خالط عدداً من المسلسلات التي بثتها قنوات هذه المجموعة، وكثير من هؤلاء الكتّاب هم من المحسوبين على الاتجاه الليبرالي، وهذا شكل آخر من أشكال الوعي، وصورة من صور الوطنية الصادقة، وفوق ذلك كله هو واجب يفرضه عليهم دينهم ومجتمعهم . إنّ إقدام هؤلاء الكتاب على نقد هذا الفساد يجب أن يتلقاه كل واحد منا بالقبول والثناء والدعاء، فهم – وإن لم يتفق معي الكثيرون – الضاغط الأهمّ على هذه القناة وغيرها من القنوات الساذجة ... وفقهم الله وكتب لهم الأجر مضاعفاً . الملحوظة السابعة : كشفت كلمات الشيخ اللحيدان عن تطوّر في فهم المجتمع السعودي لقضية الإرهاب؛ إذ لم يعد من السهل اختراق هذا المجتمع من قبل الاتجاهات الفكرية المنحرفة باستخدام مصطلح الإرهاب كما هو الحال قبل سنوات. لقد كان من مصلحة أمريكا أن يظلّ مفهوم الإرهاب غائما إلى غائم جزئياً؛ ليلبي أغراضها المعروفة في المنطقة، وكذلك الشأن بالنسبة إلى السادة أتباع الليبرالية في بلادنا، فمن صالحهم أن يظلّ الإرهاب واسعاً سعة طموحاتهم، وألا يحدد بمدلول معيّن يحدّد آمالهم الكبيرة في تغريب هذا المجتمع، واستعداء الآخرين عليه ... وإذا كان الليبراليون قد حققوا شيئاً مما يريدون في زمن مضى كان الإرهاب فيه غائماً فإنهم اليوم أعجز ما يكونون عن استثمار هذا المصطلح بعد أن قتلوه استهلاكاً ...؛ ولذلك لم تنطلِِ على المجتمع – من حيث الجملة - إدراجهم الإرهاب في مواجهة الشيخ اللحيدان، وهو قامة من قامات السلم الديني والاجتماعي، تشهد خمسون سنة على بياض رايته، وسلامة معتقده، وخلقه، وانتمائه، وهذا لا يعني سلامته المطلقة من الخطأ أو الزلل أو النسيان، ولا يعني كذلك تجاوزه مرحلة النقد والمساءلة . إنّ وعي المجتمع بهذه المؤامرة الإعلامية، وسرعته البليغة في كشف مقاصد أربابها لهو شكل من أشكال تطوّر الوعي الشعبي في التعاطي مع قضية من أكثر القضايا سخونة، كثيراً ما استخدمها البعض – وللأسف - لتحقيق مصالح شخصية على حساب الدين والوطن !! هذا مالدي أعزائي ، وستجدونني سعيداً سعيداً بملحوظاتكم الكريمة وتوجيهاتكم السديدة ... دمتم بخير . خالد بن أحمد الرفاعي