[الاستبداد الثقافي] لئن كان العرب في جل تاريخهم عرفوا الاستبداد السياسي , خاصة في رهط هذا العصر, فهو واضح وجلي في كثير من الاقطار العربية ولا يحتاج إلى عنوان ولا إلى مقال , فمجرد استماعك لنشرة الأخبار العربية أو قراءتك للصحف الرسمية , ستعرف أن ما تسمعه وتقرأه ليس هو الموجود فعلا في الواقع المعاش , فليس الخبر كالعيان , فالإنسان العربي مهضوم الحقوق منذ ولد وحتى يموت , فإن الاستبداد الثقافي خفي وأكثر خطورة , إذ يمارس المثقف استبداده من خلال سلطة المعرفة وايدولوجيا المعنى , كذلك استبداد العادات والتقاليد وأنماط التفكير وأساليب التربية وظواهر المجتمع , فاستبداد المثقف، الذي يواجه بلغته التقنية الغامضة قارئاً بسيط اللغة وضعيف الكلام، أكثر من ذلك يواجه المثقف بهالته الأكاديمية قارئاً بسيطاً لا هالة له، معتبراً أن اللقب معرفة وامتياز, معرفة في ذاته تضطهد الآخر الذي لا لقب له، وامتياز يسمح لمن يعرف أن يملي لغته وأفكاره على من لا يعرف بهذا المعنى، فإن العلاقة بين الأكاديمي والتلميذ لا تدور في حقل التعلم والتعليم بل في حقل آخر قوامه السيطرة والإخضاع، سيطرة تؤمنها الكلمات المعقدة، وإخضاع تبرره الهالة العلمية، التي توجب الاحترام . إذا كان المجتمع في النهاية هو مؤسسة ثقافية فإن الاستبداد يعيد أنتاج نفسه من خلال أنظمة المعنى فلا جدوى أن نفتش عن العلة في بنية المجتمع ومؤسساته , إذ هو الذي يولد العنف والاستبداد وذلك يعني ان مصدر العنف والاستبداد يتجسد في النماذج الثقافية ومرجعياتها وسلطاتها , كما يعني ان المثقفين من دعاة الحرية وحراس الفضيلة والحقيقة والعدالة , ليسوا بمنأى عن المحاسبة والمراجعة بل هم من صنّاع الأزمة , إذ هم في الغالب يرفعون شعارات يستحيل تطبيقها أو لا يقدرون عليها ولا يحسنون الدفاع عنها فهم لا يحيطون بشروطها ومتطلباتها, ويدعون إلى مثاليات تتعالى عن قدرة المجتمعات الأخذ بها وتطبيقها , فكل فئات المثقفين من حداثيين وتنويرين ودعاة تراثيين , مجددين ومحافظين معلمين وتربويين ومتنفذين واصحا ب امتيازات وثروات , وكل الذين يمارسون الوصاية على الحقيقة والأمة والهوية إنما يمارسون لعبة الغالب الاجتماعي , لنتعرف أننا كلنا نمارس الاستبداد ومسئولين عنه . إذا كانت ميزة الإنسان انه كائن يفكر وإذا كانت المجتمعات البشرية هي مؤسسات ثقافية تُبنى وتتطور من إنتاج المعاني والقيم والأفكار وإذا كان المثقفون والمفكرون يمارسون الوصاية على القيم والحريات العامة بل حتى على الخصوصيات فالأولى أن نشخص الداء على مستوى الفكر بالذات بحيث نتحدث عن منابع الاستبداد في نظام تداول المعاني وسلم القيم وشكل الوعي واليات التفكير , فنحن نمارس العنف والإرهاب والاستبداد ليس بسبب غياب المعنى وانهيار القيم بل من توثين المعاني واحتكار تفسيرها , فالواحد منا يستبد بسواه بقدر ما تستبد به نزواته ورغباته واساطيره أو مقولاته وشعاراته ونظرياته أو امواله وارباحه أو القابه ومناصبه , وهكذا يمكن ان نعيد تفسير التخلف والإخفاق وفهم المأزق , بان نقارب ونعيد قراءة ثقافة استبداد الأفكار , بطريقة مختلفة وعلى صعيد مغاير من النظر والتحليل بحيث نتحرى إمكاناً جديداً للفهم والتشخيص . فليس الظلم سياسياً فقط أو امراً فردياً بل هو جماعي، يساهم فيه مثقفون مستبدون يلبسون الحق بالباطل . النزعة النخبوية الفوقية هي علة العلل في غياب العدل الاجتماعي لأن هذه النزعة تعني تصنيف المجتمع الى فئتين قلة تفكر وتقرر وكثرة تطيع وتنفذ , وعلى هذا النحو يتعامل المثقفون مع مهامهم أي بكونهم يجسدون عقول الأمة وضمير الوطن أو يعبرون عن مصالح الناس , مثل هذا التصنيف الثنائي له نتائج سيئة وربما كارثية لأنها تتعامل مع البشر كقطعان لا تفكر وككتل جماهيرية لا تعقل , ولان الجموع بصفتها تلك لا تفكر بعقلانية ومصلحة، فهذا سبب ثقافي , فمشكلة الثقافة العربية انها ما تزال حتى الان ملتصقة بمفاهيم القرون الوسطى وما قبلها في التبرير والتحشيد والمثالية , فلم تدخل هذه الثقافة عصر الانسان العام او النزعة الانسانية وبقي ممثلوها حاملين اختام العقائد والايديولوجيات , إن الغلو الذي يقع فيه عادة بعض المثقفين والمنظرين , الذين يفكرون نيابة عن الغير, بما ينبغي أن يكون أو لا يكون بقدر ما يعملون على نفي الوقائع التي تفاجئهم وتنقم منهم , إن قادة الفكر و صنّاع العقول ومديري المعاني اشد فتكاً واكثر خفاءًا من المخاتلات السياسية ولعبة الايدولوجيا العقائدية , ذلك أن التلاعب بذهنيات الناس من خلال التهويمات الكلامية المنفصلة عن يوميات الناس وشغب الحياة وتعقيداتها لاتطعم رغيفاً فكيف ستقود إلى أمان اجتماعي , إن البسطاء من الناس يحتاجون إلى بساطة في الكلام أكثر من التعقيد النظري للمفاهيم . إن قبيلة المثقفين المليئة بالتناقضات الحادة لاتجرؤ أن تغيب عن الهالة الثقافية التي تتضخم بها وتستر ورائها متخفية ومخفية عيوب المثقف الذي يمارس بدوره السيطرة على عقول الناس من خلال التعصب لأراءه وافكاره , فتراه ينهى عن العصبية وهو بها مصاب , وينهى عن الفساد وهو يمارسه . ***** ( لازمتي ) إقرأ + فكّر بما تقرأ + لاتستسلم لما تقرأ = الآن اصبحت إنسان