استيقظت مدينة الحوراء الحالمة أو القرية البيضاء كما يحلو للبعض تسميتها والتي تقع شمال غرب المملكة العربية السعودية ذات يوم من أيام القرن التاسع الهجري على نباء أصاب الأهالي بالخوف والرعب والارتباك وكثر الهرج والمرج بين الناس بين مصدق ومكذب ومشكك ومرتاب ، والسؤال الوحيد على السن الناس : أين اختفى حيان هذا الطفل الذي لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات. وهو نائم في حضن أمه!؟
في هذه القرية التي تنتشر مساكنها حول أسوار الحوراء التاريخية ويخيم على سكانها البساطة والمودة والرحمة وحسن الجوار, وهم كالجسد الواحد إذا شكا عضو تداعى له سائر الأعضاء , والكل يبحث بكل إصرار وعزيمة عسى أن يكون له السبق في العثور عليه حياً. فهذا الرجل يبحث عنه عند الميناء (المرسى) الذي كان في ذلك العصر من أهم مواني بحر القلزم كما كان يطلق على البحر الأحمر آنذاك, وآخر يبحث عنه حول بقايا أسوار الحوراء الأثرية والتي أصبحت مفازة (استراحة) للحجاج القادمين من مصر وشمال أفريقيا ، وعند غابة النخيل والعين وآخرون في الغبايا وعين الدغيبج وجبل ترهم ووادي سمين وخيف سمنا والحرة والبحير وغيرها دون أن يجدوا له أثرا حتى انتصفت شمس ذلك اليوم الحار. وكثر الهرج والمرج والقيل والقال والسؤال الذي يطرح نفسه, أين ذهب هذا الطفل ؟ وهل أُختطف !؟ ومن الذي أختطفه !؟ إنسان أم جان !؟ أم ابتلعه وحش جبار دون أن يترك له أثرا في أي مكان .
وأم حيان تنظر حولها علها تجده أمامها في ركن من أركان بيتها المتواضع المبني من الحجر والطين وسطحه من الجريد وجذوع النخيل,وهي تضع يدها على بطنها وكأنها تخاطب جنينها الذي لم ير النور بعد قائلة: لا تخف سيعود أخيك حيان بإذن الله إلى حضني وسنجده هنا أو هناك يلهو مع الأطفال ويلعب وينتظرك لتلعب معه. وكأنها تشعر بأن ما تحمله بين أحشائها ذكراً. والدمع يتحجر في عينيها وكأنها تخشى البكاء خوفا عليه من الموت . وخلت نبرات صوتها من العذوبة والنعومة والرقة والأنوثة وكأنه ليس صوتها المعهود, ونساء القرية حولها يبعثن فيها الصبر والأمل في آن وتحس إحداهن بخشونة نبرات صوت هذه الأم المسكينة, فتهب إلى الزير (خزان من طين لحفظ الماء وتبريده ) وتملئ ألإناء بالماء وتتقدم به إليها . فتنظر أم حيان إليها وكأنها تتساءل ,
كيف أحست بعطشي, وأنا لم اشعر بعطشي هذا أو أحس به؟
فرشفت من الماء قليلا عسى أن يطفئ نار الحسرة في قلبها الحنون على ضناها ووحيدها الغالي. والنساء يتحد ثن عن قصص وحكايات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع وعن مصير هذا الطفل المفقود بصوت خافت خشية أن تسمعهن الأم فيزداد ألمها وتزداد أحزانها. فتقول إحداهن وهي تجلس عند مشب النار لتساعد في طهي طعام الغذاء المكون من السمن والعسل والطحين: إنها السعلية ,بلا السعلية هي التي خطفته . فتسألها أُخرى, ومن أخبرك بأن السعلية هي التي خطفته!؟ فتجيب قائلة: لم يخبرن أحد , ولكن جدتي كانت تحدثنا عنها , وتضيف قائلة : لقد كانت السعلية تتجول في القرية ليلا تبحث عن فريستها, فتنادي النساء بأسمائهن عسى أن تخرج لها إحداهن فتهجم عليها وتأكلها, وكانت ترد ماء العين والقمر بدرا ,علها تجد فريستها من إحدى النساء الغشيمات أللاتي يردن الماء بعد غروب الشمس . وبقيت السعلية على هذا الحال . حتى شاهدت جد تي رجليها فأبلغت النساء فهربن منها. فتسألها أخرى : وما ألذي شاهدته جد تك في رجليها !؟ فقالت :قالت لي جدتي خرجتُ ذات ليلة برفقة جارتي لنرد ماء العين ثم لحقت بنا امرأة لا نعرفها تُريد الماء وعند ما وصلنا العين وملأنا قربنا بالماء ( القربة إناء لحمل الماء مصنوع من جلود الحيوانات) ,أصرت هذه المرأة على أن نتبعها إلى ماء قريب بحجة أنه أكثر عذوبة من ماء هذه العين وأنا اعلم أن ماء هذه العين من أعذب المياه في الحوراء , فشككت بالأمر, فقلت لها :أخذنا من الماء ما يكفي ولا داعي للذهاب إلى ذلك الماء فقد تأخرنا وأقترب ألعٍشاء . وأنا انظر إليها وأتفحصها لأ تعرف عليها فشاهدت شيئا عجيبا ومخيفا, فسألتها : وماذا شاهدتي يا جدتي؟! فقالت :لقد شاهدتُ خُفها الأيمن كخف إنسان وخُفها الأيسر كحافر حٍمار. فعرفتُ أنها السعلية فأخبرتُ جارتي بهدوء فتركنا قٍربنا بمائها عند العين وهربنا منها إلى بيوتنا , وفي الصباح عدنا إلى قٍربنا فوجدناها ممزقة ولم نجد للسعلية أثراً على الأرض , فأخبرتُ ابني البكر بما حدث. فقلت لها: أبي أليس كذلك ؟ فقالت لي : نعم وكان وقتها شابا فارساً وشجاعاً فطاردها حتى دخلت غارها في وادي الشاقة ولم تعد بعد ذلك . وهناك في طرف حوش هذا البيت المتواضع تتحدث امرأة ترتدي خٍمارا احمرا مع أخرى حول المارد الذي يسكن جبل ترهم , لتؤكد ذات الخمار الأحمر : أن هذا المارد هو الذي اختطف هذا الطفل المسكين. وتضيف قائلة: لقد خرج زوجي ذات ليلة للصيد وعندما أقترب من جبل ترهم خرج له المارد بصورة إنسان عملاق يتعدى طوله مئة ذراع وقد سد عليه الطريق لكن زوجي لم يأبه به وتعدى من بين رجلي هذا المارد العملاق وعاد إلينا سالما. غير أن عجوزا لا تكاد تقوى على القيام وامرأة في منتصف العمر يجلسا خارج البيت وتستظلا بجداره لهما رأي آخر, فالعجوز تؤكد لها أن الكنز الكبير الذي خبأه الجن في جبل ترهم منذ مئات السنين هو سبب اختفاء الطفل , لان الجبل لا يُفتح مرة ثانية إلا بدم طفل من الإنس .وتروي لها العجوز قصة هذا الكنز فتقول : سمعتُ :أن أحد الحجاج رأى هذا الجبل أثناء رحلته إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج فأخبر الناس أن في هذا الجبل كنز عظيم . وأخذت هذه المعلومة تنتشر بين الناس والكل يروي ويزيد عليها حتى جاء رجلا يدًعي مخاطبة الجن. يُدعى فهار.يريد فتح هذا الجبل لإخراج ما به من ذهب وفضة ومجوهرات. وفي صباح يوم من الأيام علٍم الناسُ بوجود طفل قتيل عند جبل ترهم فاجتمعوا عند سفح هذا الجبل فشاهدوا جثة غلام بلا رأس وبقع من الدم تنتشر حول هذه الجثة فقال أحدهم والحزن يخيم عليه : أخشى أن تكون هذا الجثة لغلام كان يبحث عنه حاجاً من حجاج مصر أثناء مرور قافلة المحمل المتجهة إلى مكةالمكرمة قبل عدة أيام (المحمل القافلة التي تحمل كسوة الكعبة المشرفة) . فقام رجلا بغسله وتكفينه واتفقوا على دفنه في مكانه. ثم نزل رجلا من أعلى الجبل مهرولا والفزع والإرباك يسيطر عليه وهو يصرخ قائلا: رأيت مالا يصدق . فسأله أحدهم عما رآه . فأجابه بأنه رأى فهار ! الذي أدعى قدرته على إخراج هذا الكنز جثة هامدة نصف جسده السفلي داخل الجبل والنصف الآخر خارجه فصعدوا إلى الجبل لإخراجه ودفنه فعجزوا وظل على هذا الحال حتى أكلته الوحوش والطيور الجارحة. بينما ترى الأخرى أن عروسة البحر التي تظهر بصورة فتاة غاية في الجمال والتي يروي عنها البحارة قصصا وحكايات هي التي خطفته ,ليعيش معها في أعماق البحر وعندما يكبر تجعل منه زوجاً لها . فقد كانت تقترب من هؤلاء البحارة وهم يعبرون البحر بقواربهم الخشبية لتغري أحدهم بالعيش معها في قصور مبنية تحت أعماق البحر. وتشاركهن امرأة وهي تمارس هوايتها المفضلة بالقرب منهن ألا وهي صناعة الحبال من ألياف النخيل بالحديث قائلة: أن شبح الفارس ألأبيض الذي يركب جملا أبيضاً ويتجول ليلا بين المزارع والنخيل حول الحوراء وهو يردد الحان القاف هو من أختطف هذا الطفل البريء. ثم تلتفت أليهن امرأة مشغولة بحياكة الغزل والصوف وهي تحرك رأسها يميناً وشمالاً وكأنها تقول لهن كل ما تقولونه جانبه الصواب, ثم تطلب من النساء الاقتراب منها لتخبرهم بالحقيقة التي يجهلونها وهي أن: الأصلة المجنحة ( أفعى لها جناحين تطير بهما) هي التي خطفته . تصمت قليلا ثم تحدثهن قائلة: رأيت هذه الأصلة وأنا اسرح بغنمنا برفقة أختي يرحمها الله بالقرب من عين سمنا وهي تهجم على غنمنا وتخطف شاة منها وتحلق بها في السماء كالنسر . والعديد من القصص والخرافات التي لا حصر لها. والأب المسكين يجلس على شاطئ البحر برفقة أحد جيرانه تحت ظلال السفن الخشبية القديمة التي يُعادُ ترميمها ينتظر عودة الرجال بخبر سعيد عن أبنه الوحيد وهو يردد في قرار نفسه أن ابنه حيان هالك لا محالة فصبرا جميلا والله المستعان, وبينما هم كذلك فكر احد الرجال في البحث عن الطفل في وادي الشاقة القريب من الحوراء حيث لم يرى احد من الرجال اللذين يبحثون عن الطفل قد ذهب إليه وعندما اقترب من الوادي, رأى رأس طفل مغروس في الرمال وكأنه حي يرزق وكأن جسده الباقي مدفون في حفرة يلهو بها ويلعب. فأبتسم الرجل فٍرحاً ضناً منه أن حيان حي يرزق. وما إن وضع يديه على رأس حيان بكل هدوء وروية حتى وجد تحته بقية عظام هذا الطفل المسكين وقد وُضٍعت ورُتٍبت بطريقة غريبة. فتركها على حالها, وسارع إلى القرية ليخبر أهل الطفل عما رآه. وما إن وصل إلى القرية حتى قابله الشيخ عابر وهو رجل مسن علمته السنين الوقار والحكمة قائلا له. هل وجدت الطفل ؟ الرجل: نعم الشيخ عابر: ولماذا لم تأتي به!؟ الرجل : فضلت أن يشاهده أبيه على حالته. فهز الشيخ عابر رأسه ثم قال: "وهو يستنشق الهواء بقوة " أخشى أن يكون الوحش قد عاد. الرجل : أي وحش أيها الشيخ؟ الشيخ : لا عليك ,هيا بنا إلى أبيه. فلما وصلا إلى أبيه اخبره الرجل بما شاهده فذهبوا جميعاً إلى وادي الشاقة, فوجدوا رأس وعظام هذا الطفل المسكين فقاموا بجمعها ودفنها في مقبرة الحوراء. والناس في هرج ومرج وحيرة واستغراب مما حدث. والأب المسكين صامت لا يتكلم وعيناه تتحرك يمينا وشمالا وقد تحجر الدمع فيها .ثم ينظر إلى السماء مسلما أمره للخالق العلي القدير مؤمنا بقضاء الله وقدره, وجاء خبر الطفل إلى أمه من إحدى النساء. فذرفت عيناها سيلا من الدمع بصمت وصبر, وهي تقف بالقرب من النافدة تنتظر عودة زوجها عسى أن يخفف عنها مصابها ويخبرها بما حصل لابنهما الوحيد حيان. وما إن اقترب زوجها من الدار برفقة الرجل الذي اخبره حتى تهيجت بالبكاء , فبادر الزوج بالذهاب إليها بعد أن طلب من الرجل انتظاره عند مجلس الرجال الذي يستقبل فيه العزاء. واخذ الزوج يخفف من حزن زوجته ويصبرها مرددا بعض الأدعية التي تبعث في النفس السكينة والاطمئنان . حتى هدئت, ثم عاد إلى الرجل ليعرف منه المزيد. وبداء الناس يتوافدون للعزاء وأثناء حديثهما قال الرجل : أعتقد والله اعلم أن الشيخ عابر يعرف شيئا . الأب: ماذا تقصد ؟! الرجل: أقصد أن الشيخ عابر ربما يعرف شيئا عن الفاعل. الأب: سأذهب إليه صباح الغد إنشاء الله.لأعْرٍف منه كُل شيء. وعاد والد حيان إلى زوجته بعد أن تناولوا طعام العشاء وذهب الجميع رجالاً ونساء إلى بيوتهم لأخذ قسطا من الراحة بعد عناء هذا اليوم الشاق, وما إن طلع الفجر وأشرقت الشمس بنورها حتى أخد الناسُ رجالا ونساء يتوافدون على الدار بين معز ومواسٍِ ومساعد ومشارك يحمل بعضهم ما لذا وطاب من الأكل والشراب يكفي لوجبة ألإفطار والغذاء لجميع الحاضرين تمشيا مع عاداتهم وتقاليدهم الحسنة الموروثة من آبائهم وأجدادهم على مر السنين, وعندما أضحى النهار أستأذن والد حيان من الحاضرين للذهاب إلى الشيخ عابر فطلب خال حيان مرافقته فذهبا إلى الكوخ ألذي كان الشيخ يسكنه بمفرده حيث لا زوجة ولا أولاد فوجداه يصلي صلاة الضحى فانتظرا حتى أتم صلاته فسلما عليه فرد عليهما السلام وحياهما ثم دعا للطفل بالرحمة والجنة ولأبويه بالصبر والسلوان. فبادر ألأب بسؤال الشيخ عابر عما يعرفه عن الفاعل . فقال الشيخ : لا أعرف شيئا على وجه التأكيد ولم أرى شيئا بأم عيني , غير إنني شممت وأنا في مكاني هذا ليلة قبل البارحة, التي أصبحنا منها على خبر أبنك حيان, رائحة كريهة نتنه تقترب مني ثم تلاشت , وتذكرتُ كلام أبي يرحمه الله عندما كان يحدثنا عن ظهور وحش قاتل نتن الرائحة في هذه الديار قبل عشرات السنين أثار في نفوس أهل القرية الفزع والخوف . ثم اختفى فجأةً, وأخشى أن يكون قد ظهر هذا الوحش مرة أخرى والله أعلم. فصمت ألأب برهة ثم أستأذن من الشيخ للعودة إلى داره حيث ينتظره بعض من رجال القرية هناك.وهو يردد ( إنا لله وإنا إليه راجعون ,ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) فلما وصل إلى داره وجد أهل القرية ينتظرونه بشغف وشوق لمعرفة حقيقة ألأمر وتفسيراً لما حصل فأخبرهم بما دار بينه وبين الشيخ عابر. وما أن حان وقت الصلاة حتى هب الجميع للوضوء لأداء صلاة الظهر جماعة في مسجد القرية الذي قام ببنائه ووقفه حاجاً مقتدرا من حجاج بيت الله الحرام أثناء مروره بالحوراء في طريقه إلى مكةالمكرمة لأداء مناسك ألحج . وبعد أللانتهاء من الصلاة قام الإمام يحدثهم بحديث يبعث في النفس الطمأنينة والصبر ويحثهم على ألإيمان بقضاء الله وقدره وكثرة الصلاة والدعاء والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأن لا يغفلوا أيضا عن أعمالهم الدنيوية, من طلب للعلم وسعيا للرزق وعملاً ًللبناء والتعمير .,وأوصاهم بالأمانة والصدق والتسامح وأن يجعلوا من مكارم الأخلاق وحسن المعاملة صفة لا تفارقهم في السراء والضراء ومع الناس جميعا باختلاف أشكالهم وألوانهم ومعتقداتهم مستشهداً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم * ( إنما بُعثُ لأتمم مكارم ألأخلاق) وختم حديثه بالدعاء وطلب الغيث من رب العباد. ثم ذهبوا إلى دار العزاء لتناول طعام الغداء الذي تكفل به أحد الجيران كعادتهم في مثل هذه الظروف. ومرت أيام وليالي والقرية وأهلها في هدوء وسكينة وكاد الناس أن ينسوا قصة هذا الطفل المسكين غير أن خبر اختفاء إبن احد الحجاج القادمين من المغرب ليلة البارحة في الحرة الزرقاء القريبة من الحوراء والبالغ من العمر عشر سنوات والذي انتشر في القرية في صباح تلك الليلة أعاد الخوف والرعب في قلوب أهلها . مما جعلهم يأخذون الحيطة والحذر خوفا على أبنائهم ,حتى وصل بهم ألأمر إلى ربط أبنائهم بالحبال ,وإشعال النار طوال تلك الليلة عند بيوتهم وأعشاشهم وأكواخهم,. وفي عصر اليوم التالي وصلت قافلة الحجاج إلى الحوراء بعد أن يأسوا من البحث عن الصبي . فأستقبلهم أهل القرية كعادتهم بالترانيم الدينية والموشحات الإسلامية ثم قدموا لهم عسل النحل والسمن والمضير والتمر والعجوى وبعض الأطعمة المصنوعة من طحين البر والدخن , كواجب من واجبات الضيافة والكرم التي يمتاز بها أهل هذه القرية الكرام. ثم تناولوا أطراف الحديث حول اختفاء الصبي في الحرة الزرقاء , وأخذ والد الصبي يقص عليهم ما حدث لأبنه قائلا: عندما نويتُ حج بيت الله الحرام برفقة من نوى للحج من أهل المغرب أصر أبني على مرافقتي للحج في آخر لحظة وترددت كثراً, لما يلاقيه الحجاج من صعاب وجوع وعش وسلب ونهب في بعض المراحل من مراحل هذا الطريق الطويل, غير أن إلحاح أمه وجدته جعلتني أوافقه. وسارت بنا الأمور والحمد لله تعالى على ما يرام حتى وصلنا إلى الحرة الزرقاء بعد غروب الشمس فقررنا المبيت بها, وفي منتصف الليل أستيقظ إبني لقضاء حاجته فقمتُ لأرافقه غير أنه أبى , قائلا لي :أنني لا أخشى الظلام يأبي , وبعد فترة شعرت بجفول الإبل والخيول فناديته فلم يجب فكررت النداء حتى أستيقظ بعض الحراس والحجاج, فبحثنا عنه حتى أشرقت الشمس ثم تابعنا البحث حتى ظهر هذا اليوم فلم نجد له أثراً ولولا ريح الصبا التي هبت صباح أمس لتقفينا أثره واتضحت لنا الأمور ولكن إرادة الله فوق كل شيء. فصبر جميل والله المستعان. وفي صباح اليوم التالي غادرت القافلة متجهة إلي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذوا من الماء والغذاء ما يكفيهم مرددين لحن ألإيمان . (( لبيك اللهم لبيك,لبيك لا شريك لك لبيك)) (( إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) حتى توارت القافلة عن الأنظار. وبدا لأهل القرية خطورة الأمر مما حذا بهم إلى تكوين حراسة ليلية حول القرية ومساكنها خوفا على حياتهم وحياة أبنائهم. ثم تلاشت هذه الحراسة تدريجياً مع مرور الأيام والتفت الناس إلى أعمالهم على مضضٍ. تحسبا لقدوم قوافل الحجاج التي تزداد في مثل هذه الأيام لتزدهر الحركة التجارية من بيع وشراء بين الأهالي وحجاج بيت الله الحرام
فعاد الراعي إلى إبله وأغنامه والمزارع إلى زرعه والحطاب إلى مجباته والعسال إلى خشبه والحجار إلى محجره والغواص إلى غوصه والصياد إلى بحره, وعاد كلٍ إلى حرفته ومهنته التي يٍسترزق منها قوتهٍ وقوت أُسرته . وبعد أسابيع وصلت قافلة حجاج تونس إلى الحوراء واستقبلهم أهلها كعادتهم , وفي هذا اليوم أحتفل الحجاج بعد صلاة العصر بسلامة وصولهم واقترابهم من الأماكن المقدسة على طريقتهم بالموشحات والأدعية والابتهالات كعادة بعض الحجاج. وأهل الحوراء وأبنائهم يجتمعون حول هذا الاحتفال للمشاهدة والتسلية والتعرف على عادات وتقاليد الآخرين باحترام وتقدير . وأثناء هذا الاحتفال دار حديث بين رئيس القافلة وتاجر من تجار الحوراء حول عدة أمور, ثم تطرق رئيس القافلة إلى وجود وحش بالقرب من الحرة الزرقاء حاول ألبلا نصية (الحرس) قتله فجر هذا اليوم عندما شاهدوه وهو يقترب من القافلة غير انه اختفى كلمح البصر. فقال له التاجر سنأخذ حذرنا وحيطتنا والأمر بيد الله سبحانه . وفي صباح اليوم التالي قام الحجاج بشراء ما يحتاجونه من عسل وسمن وتمر ومضير لهم وأعلاف وحشائش لدوابهم من إبل وخيول لتعينهم بعد الله سبحانه وتعالى على إكمال مسيرتهم وسفرهم هذا. ثم غادروا الحوراء مهللين ومكبرين وهم يرددون دعاء الحج (لبيك اللهم لبيك , لبيك لا شريك لك لبيك) فرحين باقترابهم من بيت الله الحرام ومسجد رسوله الكريم بعد عناء وتعب ومشاق هذا السفر الطويل. ومرت الأيام والأحوال هادئة فلا خوف ولا هلع ولا فزع على حياتهم وحياة أبنائهم. غير أن ألإبل والمواشي لم تعد في مأمن, وأصبحوا يفقدون من إبلهم ومواشيهم واحدة واثنان كلما سرحت هذه الإبل والمواشي بالقرب من وادي سمين والشاقة في غفلة من الراعي والسارح, وعزوا ذلك إلى الذئاب والضباع الجائعة المنتشرة في هذا الوادي, وتحول اهتمامهم وخوفهم إلى قلة الأمطار وشح المياه في العيون والآبار وشدة الحرارة التي لم يعهد مثلها من قبل وكثرة العواصف الرملية الشديدة ورياح السموم التي أحرقت الأخضر واليابس. فأصاب الناس ضرراً كبيرا وهُلكت بعض الإبل والأغنام ويبست بعض المزارع والبساتين والأشجار والنباتات البرية والرعوية . وتحت كل هذه الظروف الصعبة بدأت بعض قوافل الحجاج تتوافد على الحوراء وقد أعياهم الجوع والعطش من شدة حرارة الجو وكثرة السلب والنهب. فمكث بعضهم في مفازة الحوراء يومين وثلاث لأخذ قسطا من الراحة تساعدهم ودوابهم على إكمال رحلتهم. وكانت قافلة أهل العريش ورفح آخر القوافل التي غادرتها. وبعد أربعة أيام أتى رجلا من نبط يُدعى درهم يحمل طفلة لم يتجاوز عمرها السنتان, يسأل عن دار الشيخ عابر. فلما قابله قال له درهم : وجدت هذه الطفلة عند شجرة أُم غيلان وقد تركتها امرأة ,أعتقد أنها والدتها وهي عاجزة عن حملها لٍما أصابها من الوهن والمرض من شدة الجوع والعطش. الشيخ عابر: وكيف تستطيع أم فعل هذا بابنتها؟! درهم : لقد لاقت هذه القافلة التي ترافقها هذه المرأة وأظن إنها قافلة أهل العريش ,ظروف قاسية من شدة الحرارة وقلة الماء والغداء وموت الكثير منهم ومن دوابهم وسطو قطاع الطرق والصعاليك عليهم وسلب ونهب ما تبقي معهم من مال وماء وغذاء جعلها تفعل هذا مكرهةً . فقد تركتها أول الأمر وذهبت مع القافلة راجلة,(مشيا على الأقدام). ثم تركت القافلة وعادت وهي تجري كالمجنونة وتقبل طفلتها وهي تبكي ثم لحقت بالقافلة ثم عادت مرة ثانية لأبنتها تقبلها وتحضنها ثم لحقت بالقافلة ولم تعد بعد ذلك . وأنا انظر إليهما من بُعد . فاقتربت من الطفلة فوجدتها تبكي وقد أضعفها الجوع والعطش فحملتها, وجئت بها إليك أيها الشيخ عسى أن تعود هذه المرأة من الحج فتجدها حية ترزق بإذن الله . الشيخ عابر : ولماذا لم تدعها في نبط حتى تعود القافلة؟ درهم: خشية أن تعود بعض القوافل من الدرب الساحلي بدلا من درب الوكالة وأن لا تمر بنبط خوفا من شدة حرارة الجو. والحوراء هي ملتقى درب الوكالة والساحل كما تعلم أيها الشيخ. فقال الشيخ عابر: نعم هذا صحيح غير أن حجاج رفح والعريش يقيمون في مكةالمكرمة والمدينة المنورة أياماً عديدة وعلينا ألانتظار حتى عودتهم إنشاء الله سالمين. فأخذها الشيخ مسميا وذهب بها إلى بيت تسكنه امرأة صالحة وقص عليها قصتها وطلب منها الاهتمام بها متكفلاً بكل ما تحتاجه من ملبس وغذاء.عسى أن يقدر الله لها لقاء أمها إن كتب الله لها ولأمها النجاة والبقاء. فاهتمت بها وأحسنت رعايتها. وأثناء عودة قوافل الحجاج إلى ديارهم وأوطانهم مرورا بالحوراء علمت المرأة بوصول أول هذه القوافل. فأبلغت الشيخ عابر ليبحثا عن أم هذه الطفلة . فقال لها الشيخ عابر: خذي الطفلة وتجولي بين نساء كل قافلة دون أن تتكلمي عنها بشيء عسى أن يتعرفن عليها. فذهبت وبرفقتها الطفلة تتجول بين نساء كل قافلة تصل إلى الحوراء حتى وصلت قافلة أهل العريش وأثناء تجولها بين نساء هذه القافلة المنتشرات تحت أشجار النخيل وأشجار الأراك والسمر على الرمال البيضاء بالقرب من الشاطئ يؤدين بعض الأعمال من غسيل وطهي وترتيب وأخريات يستمتعن بالمناظر الجميلة والخلابة على هذا الشاطئ.وفتاة شابة لم تتجاوز العشرين عاما تتجه بهدوء نحو صوت ناي حزين على شاطئ البحر لتجد شابا من أهل القرية يعزف هذا اللحن الحزين على مزمار صنعه لنفسه من نبات البوص المنتشر بكثرة في القرية. سمٍعت دعاء امرأة وهي تصلي فاقتربت منها دون أن تلاحظها هذه المرأة فسمعتها وهي تدعو الله قائلةً . (اللهم اجمعني بابنتي إن كانت حية ترزق واجعلها شافعا لي ولأبيها إن انتقلت إلى رحمتك وآخرتك ياحي ياقيوم يا علي يا عظيم ) وأخذت تكررها مرارا وهي تبكي بكاءً شديداً فاقتربت منها حتى شعرت المرأة بوجودها وقُربها وما إن نظرت إليها وشاهدت الطفلة واقفة بجانبها حتى أُغمى عليها وهي تردد كلمة جنات وعبارات غير مفهومة . فأخذت الطفلة تبكي وهي تحتضن هذه المرأة وتردد أمي أمي أمي ففاقت الأم وهي تنظر إلى أبنتها غير مصدقة جنات جنات جنات أحمدك ربي أحمدك ربي أحمدك ربي سبحانك لا إله إلا أنت رب العرش العظيم. تقول هذا وكل جزء من جسدها يرتعش من شدة الفرحة والمفاجأة . فذرفت عين المرأة الصالحة التي قامت برعايتها وهي ترفع يدها إلى السماء تحمد الله على لمٌ شمل هذه الأم بابنتها بعد أن ظنا أن لا تلا قيا. وأخذت الأم تسأل هذه المرأة الصالحة أسئلة لا حد لها كيف وجدتموها ومن الذي وجدها ومتى وأين والعديد من الأسئلة التي لا حصر لها وهي تقلب نظراتها بين ابنتها وهذه المرأة بلهفة وشوق وحنين . وعلم جميع من بالقافلة رجالا ونساء بعودة جنات إلى أمها بعد أن ظنوا أنها هالكة لا محال. وعمت الفرحة أرجاء الحوراء . فقام الشيخ عابر بدعوة أهل القافلة رجالا ونساء لتناول طعام العشاء فوافقوا ولبوا الدعوة . وبعد أن تناولوا طعام العشاء تبادلوا أطراف الحديث وبداء كاتب القافلة في سرد قصة جنات . وهو الرجل الذي يتولى كتابة كل ما يخص القافلة منذ خروجها للديار المقدسة حتى عودتها إلى وطنها كالوقت والتاريخ والمواقع والمدن والتضاريس والسكان والطقس والمناخ والظواهر الطبيعية والحوادث والكوارث ولا يكاد يترك شاردة ولا واردة تحدث أثناء رحلتهم هذه إلا وقد سجلها . قائلا : منذ أن خرجنا من العريش حتى وصلنا الازنم والأمور تسير من حسن إلى أحسن وكان معنا من الزاد ما يكفي ومن الماء القليل ثم إشدت علينا حرارة الشمس وعندما اقتربنا من اكرا(شمال الحوراء) هبت علينا ريح حارة وعاصفة رملية لم تتحملها دوابنا فمات منها الكثير وأصاب بعضنا الوهن والمرض فمات من الرجال سبعة ومن النساء عشرون كان والد جنات احدهم يرحمه الله فأكملنا رحلتنا وأكثرنا مرتجلين (مشياً على الأقدام) حتى وصلنا إلى دياركم هذه . وعزمنا على شراء عددا من الإبل والخيول من هنا نعوض ما فقدناه فوجدنا القوافل التي سبقتنا قد اشترت معظم الدواب الموجودة في الحوراء , ولم نجد إلا حصان وجملين فاشتريناها ثم أكملنا مسيرتنا حتى وصلنا إلى الوكالة (طريق الحاج من الحوراء إلى الينبع) فاشتدت علينا حرارة الشمس حتى ظننا أن القيامة قد قامت , فثابرنا حتى وصلنا صحين المرمر فهجم علينا قطاع الطرق ونهبوا مامعنا من الزاد والماء وبعض الدواب وفي هذه الليلة ظهرت شهب كثيرة أضاءت ليلتنا هذه ونحن نصلي لله وندعو النجاة, ثم واصلنا رحلتنا حتى آبار نبط وقد مات الكثير منا وأصاب الأحياء الوهن والعجز والمرض وكانت والدة جنات قد أصابها ما أصابنا فوضعت أبتها عند شجرة أم غيلان عسى أن يجدها احد من المارة فيأخذها أو يفعل الله بها ما يريد وواصلنا رحلتنا حتى وصلنا إلى الينبع ( يقصد ينبع النخل ) ثم يسر الله لنا الأمور بعد كل هذه الصعاب والمهالك وكتب لنا حج بيته الحرام وزيارة مسجد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين, وها نحن نعود للحوراء لتكتمل فرحتنا بوجود جنات لتعود لأمها التي كانت تدعوا لها ليل نهار ليحفظها الله من كل شر ويكتب لهما اللقاء ولبى الله سبحانه وتعالى لها دعاءها ودعوتها . نسال الله العزيز الحكيم أن ييسر لنا طريق عودتنا إلى ديارنا وأن يرحم موتانا وموتى المسلمين أجمعين آمين يارب العالمين . ولم يكن النساء اقل حضاً من الرجال لسماع هذه القصة وهذه العبرة, فقد روت والدة الطفلة قصتها هذه عليهن وهن يحاولن إخفاء دموعهن التي تسيل خلف حجاب كل واحدة منهن فسبحان الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وما إن أشرقت الشمس بنورها حتى غادرت هذه القافلة الحوراء عائدة إلى العريش. وأصبحت قصة هذه الطفلة من القصص والحكايات التي يتسامرون بها أهل القرية , حتى خرج عليهم رجلا يصرخ قائلا أنقذوا ابني الحقوا ابني فقد خطفه وحش لم أشاهد مثله من قبل, ونهض رجال القرية كلٍ بسيفه ورمحه وشعلته يبحثون عن الصبي وعن هذا الوحش القاتل طوال الليل حتى الصباح فلم يجدوه . فقام رجلا مشهورا بتتبع الأثر (قصاص أثر) يتتبع اثر هذا الوحش حتى تلاشى الأثر بين صخور الحرار المنتشرة حول الحوراء فعاد إلى أهل القرية بمعلومات عسى أن تنفعهم في أخذ الحيطة والحذر أو يستفيدون منها أثناء البحث عن هذا القاتل المتوحش و تتبعه وقتله, وهي أن أثر هذا الوحش كأثر النمر وعدوه سريع كالفهد وكبير الحجم والوزن وهذا مالم يعهد وه من قبل إذا صدق ظن هذا القصاص . فعاد الخوف والهلع إلى قلوب ونفوس أهل القرية لا خوفا من الموت ولكن من ذلك الوحش أو ذلك المخلوق الذي فاجأهم وخطف عدا من أبنائهم وافتراسهم بين كل حين وآخر. وبينما هم كذلك أنتشر في القرية خبرا أسعدهم جميعا وهو أن أم حيان رزقها الله بمولود سماه أباه حيان على اسم أخيه يرحمه الله . وبعد أيام هطلت أمطار غزيرة مصحوبة برياح شديدة وصواعق رعدية سالت على إثرها الأودية والشعاب على الحوراء وما حولها أعادت الرواة للآبار والعيون والبهجة لسكان هذه القرية والسرور, وتعاونوا على حرث وزراعة ألأراض التي ارتوت من هذه الأمطار وخاصة زراعة الدخن والقمح والذرة والبطيخ كعادتهم بعد أن أكرمهم الله بهذا الغيث الطيب الطاهر. وبدءوا يتابعون زراعتهم وينصبون المخاييل لتشريد الغربان عن زرعهم آملين من رب العباد أن يكرمهم بمحصول وافر وكثير. وبعد أيام قليلة اجتمع الناس عند المرسى وعلى شاطئ الحوراء ليشاهدوا قطعاً كثيرة من الأخشاب وبعض الأواني الفخارية على هذا الشاطئ فعرفوا أن مركبا من المراكب الشراعية قد غرقت بالقرب من الحوراء أثنا تلك العاصفة . فجمعوا منها ما يحتاجونه من خشب وأواني فخارية غاية في الجمال والروعة لاستخدامها في بيوتهم ومزارعهم متمنين لبحارة هذه المراكب النجاة من الغرق واسماك القرش القاتلة . وبعد أيام جاءهم خبر هذه المراكب من القافلة المصرية التي وصلت إلى الحوراء قادمة من القاهرة في طريقها إلى الديار المقدسة وعرفوا أن التي غرقت ثلاثة مراكب شراعية ,وليست واحدة بالقرب من جبل حسان , فقد أرسل حاكم مصر المملوكي ثلاث مراكب تحمل كل مركب صندوقاً من المجوهرات والأحجار الكريمة إلى مكةالمكرمة والمدينة المنورة وكانت تكفي لهذا الغرض مركبا واحداً غير أنه أراد من ذلك الأمان والسلامة, (فسبحان الله العلي العظيم) وجعل في كل مركب واحد من أبنائه حارسا وأمينا على هذه المجوهرات حتى يضعها في الكعبة المشرفة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جرت العادة في تلك الأزمنة والعصور, وعندما اقتربت من شٍعاب جبل حسان المنقطع بالبحر غرب الحوراء هبت عليهم تلك العاصفة فاصطدمت المراكب بالصخور والشعاب وتحطمت ولم يكتب الله لهم النجاة فغرقوا جميعا وأعلنت دولة المماليك الحداد أربعين يوما حزناً عليهم . فهب أهل الغوص للبحث عن هذا الكنز الحقيقي البعيد عن البدع والشرك والخرافات. فأصابوا منه الكثير واخذوا يبيعونه على الحجاج بأثمانٍ زهيدة , وصدق من قال ""مصائب قوم عند قوم فوائد "" وكان الأحرى القول في مثل هذه الحالات: ""مصائب قوم عند قوم ..منافع"" فالفائدة فائدة للجميع والمنفعة التي قد تنفع أناس وتضر آخرين وسبحان مقدر الأرزاق والأسباب . فسمع رجلا من أهل القرية فقير الحال لا يكاد يجد قوته وقوت عياله يُقال له شمسان عن هذه المجوهرات فطلب من أهل الغوص مرافقتهم أثناء إبحارهم لهذا الكنز عسى أن يجد منها شيئاً. فقالوا له كيف تبحر معنا وأنت لا تعرف عن هذا البحر شيئا؟! ألا تخشى الغرق والهلاك؟ فقال لهم لم أتعود ركوب هذا البحر يوما , ولكنني أجيد السباحة والعوم والأعمار بيد الله وحده. فوافقوه فرافقهم وغاص مع من غاص منهم بحثا عن المجوهرات والأحجار الكريمة وتأخر قليلا في الغوص حتى ضنوا أنه غرق ثم عاد إلى القارب وهو في غاية الإجهاد وفي يده قطعة كبيرة وفريدة من اللؤلؤ التقطها من الشِعاب التي اصطدمت بها تلك المراكب , فقام احدهم بمساعدته ليعود إلى القارب , والفرحة والسعادة تغمرهم جميعا وهم ينظرون ويتأملون في هذه الجوهرة التي رُزق بها شمسان. ثم قام البحارة بنصب شراع قاربهم المصنوع من خشب أشجار السدر والأثل للعودة إلى الحوراء, وما إن وصل شمسان إلى شاطئ الحوراء حتى سارع إلى دكان غطفان الذي يتاجر بهذه المجوهرات والأحجار الكريمة لعرض هذه اللؤلؤة عليه وبيعها . وعندما شاهدها غطفان قاله : لم أشاهد في حياتي لؤلؤة بهذا الحجم وهذا الشكل الرائع وأثناء حديثهما هذا جاءهم تاجر من تجار مصر يريد شراء ما يجده من المجوهرات وألا حجار الكريمة بعد أن سمع عن غرق هذه المراكب فلما شاهد اللؤلؤة في يد غطفان قال سبحان الله العظيم أين وجدتم هذه اللؤلؤة ؟ فقال شمسان : وجدتها في الشعاب المرجانية التي غرقت بها المراكب المحملة بالمجوهرات . فعرف التاجر أنها من مجوهرات حاكم مصر المملوكي فدفع ثمنا لها قدره ثلاثون درهما وهو مبلغ كبير يساوي قيمة ثلاثة من الإبل السبق , ففرح شمسان بهذا المال الكبير وقام بشراء محلا لبيع القرب والخزف والحبال . ( وسبحان موزع الأرزاق) وعندما أقترب وقت الحصاد والصرم خرج مع من خرج لهذه المزارع ذيبان وزوجته وابنهما فلاح البالغ من العمر خمس سنوات وطفلتهما الرضيعة نجود إلى مزرعته ليستمتعا بخضرة الأرض وجمال الطبيعة. وعندما اقتربت الشمس من الغروب قالت له زوجته , هيا بنا نعود إلى دارنا . فضحك ذيبان قائلا : أراك خائفة من السعلآة أو من الوحش الذي أصبحت حكاياته على كل لسان وفي كل مجلس من مجالس قريتنا ! فردت عليه زوجته بقولها : نعم إن قلبي مقبوض وأخشى أن يُصاب أبنائنا بسوء . فقال لها مبتسماً : لنصلى صلاة المغرب ثم نعود إلى دارنا . فقاما للصلاة وابنيهما بالقرب منهما. وفي الركعة الثانية سمٍعا بكاء نجود وصوت حوافر حيوان يجري فسلم ذيبان وأنهى صلاة في هذه الركعة دون أن يكملها , وأتجه بنظره صوب هذا الصوت وإذا به يشاهد حيواناً غريب الشكل والحجم يعدو كالفهد اختفى فجأةً بين أشجار الأراك الكثيفة واختفى معه أبنهما فلاح. وهو لايدري ماذا يفعل من شدة الصدمة والمفاجأة والأم تصرخ عند رضيعتها فلاح فلاح أين أنت يا فلاح. فسمع بعض المزارعين المجاورين صراخها واتجهوا نحوهما متسائلين عما حدث. فلما عرفوا بالأمر أشعلوا النار وأخذوا يبحثون عن هذا الوحش المفترس حتى أنتصف البدر وسط السماء وفي صباح اليوم التالي خرج معظم أهل القرية للبحث عن فلاح وهذا الوحش القاتل فلم يجدوا للوحش أثراً ولا لفلاح بقايا ز وتكررت على سكان الحوراء هذه الحوادث بين كل آونة وأخرى .
وفي ليلة وصول المحمل إلى الحوراء متجها إلى مكة المكرمة خطف الوحش أبن تاجر الأحجار الكريمة غطفان , فعلٍم رئيس المحمل بالأمر وكانت تربطه بغطفان علاقة وثيقة وصداقة متينة منذ زمن فأمر جنود المحمل والحرس بالبحث عن هذا الوحش حتى يأتوا به حياً أو ميتاً , فأخذوا أسلحتهم وركبوا خيولهم واتجهوا صوب الأماكن والمواقع التي يُتوقع وجود الوحش بها والتي استدلوا عليها من الأهالي . وأستمر البحث يومين دون جدوى, وكاد المحمل أن يرحل فطلب الأهالي من الرئيس أن يبحثوا عن هذا الوحش ليوم ثالث بمشاركة بعض رجال القرية وشبابها فوافقهم , وفي عصر اليوم الثالث أتى الجند إلى ساحة الحوراء وهم يحملون على إحدى الخيول حيوان أشهب اللون كبير الحجم كالدب رأسه كرأس ألأسد وأنيابه كأنياب الضبع وعينه كعين الذئب ذو رائحة كريهة ونتنة. فسألهم رئيس المحمل كيف وجدتموه ؟ فقال كبير الحراس : عندما اقتربنا من وادي يقال له وادي الشاقة شممنا رائحة كريه فقال لنا شاب من شباب الحوراء سمعت أن لهذا الوحش رائحة نتنه . فبحثنا في الوادي والحرار المنتشرة فيه فوجدنا غاراً تزداد هذه الرائحة كلما اقتربنا منه, فأخذنا حذرنا وتهيئنا له . وطلبت من الحارس غلام أن يضع على إحدى يديه حاميا من الحديد ويغطيه بالقماش ويقترب من الغار وأكون أنا عن يمناه وآخر عن يسراه وعندما يهجم هذا الوحش يقدم له يده هذه فننقض عليه ونقتله . وما إن اقتربنا من الغار حتى خرج الوحش هائجاً كالثور وأمسك بيد غلام ونحن نضربه
عندما اقتربنا من وادي يقال له وادي الشاقة شممنا رائحة كريه فقال لنا شاب من شباب الحوراء سمعت أن لهذا الوحش رائحة نتنه . فبحثنا في الوادي والحرار المنتشرة فيه فوجدنا غاراً تزداد هذه الرائحة كلما اقتربنا منه, فأخذنا حذرنا وتهيئنا له . وطلبت من الحارس غلام أن يضع على إحدى يديه حاميا من الحديد ويغطيه بالقماش ويقترب من الغار وأكون أنا عن يمناه وآخر عن يسراه وعندما يهجم هذا الوحش يقدم له يده هذه فننقض عليه ونقتله . وما إن اقتربنا من الغار حتى خرج الوحش هائجاً كالثور وأمسك بيد غلام ونحن نضربه بسيوفنا على ظهره فما أثرت فيه فضربته في بطنه فانهار على الأرض صريعا , ثم دخلت هذا الغار فوجدت به عظام وجماجم بشرية كثيرة فقمنا برصف الحجر على مدخله وعدنا بحمد الله ورعايته. وأخذ الناس يتأملون في هذا الوحش وغرابة شكله ومنظره ورائحته, وقام بعض الأطفال بضربه بأقدامهم انتقاما من هذا الوحش القاتل فعمت الأفراح الحوراء وقراها بزوال هذه الغُمة وحمدوا الله كثيرا وعاش أهل الحوراء بسعادة وأمن وأمان . والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين