الوعي بما يدور حول الإنسان ضرورة فطرية مركبة فيه كالغريزة، والمجتمع في بنيته يحتاج لعين تبصر، وقلب يعي، وعقل يتدبر، فهو كالجسد الواحد، والوعي بما يجري في العالم من حوله ومتغيراته، وعلاقاته بتلك المتغيرات سلباً وإيجاباً، في كل محاورها أبعادها أصبح ضرورة في عصر تقتحم فيه الثقافات حدود الجغرافيا والتاريخ، والمجتمع يحتاج كذلك إلى معرفة نفسه، وتفهّم المفارقات والاتفاقات الثقافية والمعرفيّة التي يتشكل منها العقل الجمعيّ، وتتشكّل منها العقول الفرديّة المتباينة في حظوظها الثقافيّة والمعرفيّة، ولو كان ذلك بين أفراد المجتمع الذي ينتمي لدين واحد. إن الخطاب الثقافيّ في المجتمع يرجع إلى مصادر متباينة معرفيّة وغير معرفيّة، وأبرز مصادر الخطاب في مجتمعنا المصدر الدينيّ الذي يشكّل البنية العقليّة السائدة في المجتمع، ثم يتكون الخطاب الجمعيّ بالرجوع للمصدر المعرفيّ، وطريقة التعريف الدينيّ بحقائق ذلك المصدر، لكنّ المفارقة تكمن فيما يظهر من حريّة التعريف والتمثيل المعرفي التي شرع كثير من الناس لنفسه صلاحيّة الخوض فيها، وتكمن كذلك في تأثّر الخطاب الثقافيّ بتلك الرؤى الخاصّة التي يغلب عليها قصور النظر، والوهم المعرفيّ. إنّنا بحاجة إلى مراجعة الخطاب الثقافيّ، وواقعه في الخطاب الجمعيّ،، بل نحن أشدّ حاجة إلى صناعة خطاب ثقافيّ يضمن لنا سلامة الرؤية وصحّة التوجّه في عموم شرائح المجتمع، وانسجامَ اللحمة الوطنيّة، وترابطَ أطياف النسيج الوطنيّ، في إطار مصادر المعرفة التي ينتمي إليها المجتمع روحاً وعقلا وسلوكاً، لما لذلك الخطاب من أثر في تشكيل البنى العقليّة للوعي، وفي تصحيح التوجّهات الفرديّة، خاصّة حين يظهر ذلك الخطاب في مواقع إعلاميّة، ومؤسسّات ثقافية وفكرية، وحين يحاور المعطيات الحضاريّة التي انفتح عليها المجتمع، وليس من أمّة إلا وهي تراجع خطابها الثقافيّ وتحاكمه في ضوء مصالحها الوطنيّة التي تستلزم أن يكون خطابها الثقافيّ مسايراً المعرفية الراسخة في العقل الجمعي، والمصالح الكبرى للوطن. لقد أدركت الشعوب المتقدمة حضاريًّا أهميّة الخطاب الجمعيّ الموحّد، برغم أنّ الاجتماع حول الدين السماويّ عسير التطبيق في حياة تلك الأمم، ولن يجادل أحد في أنّ المجتمعات التي تعدّ نفسها مجتمعات "لا دينية" أنّها في حقيقتها تختزن في عقلها الباطن الجمعيّ وفي العقل الفرديّ انتماء -ولو صوريًّا- لدينها الذي تتسمّى به، وإن لم تتمثّله في أيّ شكل من حياتها اليوميّة، ولكنّه في نهاية الأمر يعد شعارا روحيّا، وراية حضاريّة تجتمع حولها تلك الأمم، وإن اختلفت أوطانها وتعدّدت لغاتها، وتضاربت مصالحها البينية. إن تلك الأمم التي يجمعها حضارة العصر الصناعيّ وجدت أنفسها أمام خيار لا محيد عنه وهو صناعة الخطاب الثقافيّ، لكيلا يتشكّل عقل مواز لذلك الخطاب داخل بنية العقل الجمعيّ، فالخطاب في العالم الغربيّ يتكلّم بألوان من الخطابات الجزئيّة الخاصة لكنّها ترجع إلى خطاب موحّد، أشبه بالدين الحقيقي الذي يعد مرجعيّة ومصدراً معرفيّا وروحيّا، ذلك الخطاب هو خطاب "الحضارة الغربية"، الحضارة التي يدافع عنها كلّ قلم، ويعدّ كلّ سلوك لا يتناسب مع نظمها وقوانينها تجازوا للخطوط الحمراء حول تلك الحضارة، فالحضارة الغربيّة هي الدين الجديد الذي اختاره العالم الغربي لنفسه، فصنع لتلك الحضارة خطابا يسمح بتعدد الرؤى والاختلاف وتباين الانتماءات العرقيّة والدينيّة، لكنّه لا يسمح بمخالفة الرؤية الكبرى التي نسجت في الخطاب الثقافيّ لحماية تلك الحضارة. إن كل ما يكفل حماية الحضارة الغربيّة بجمالها وقبحها، بإنسانيّتها ووحشيّتها، وبعقلها وضلالها، مضمّن في الخطاب الثقافيّ لتلك الأمم، حتى أصبح خطابا حضاريّا له معطياته وأسسه التي لا يختلف عليها عقلان ولا يماري فيها قولان، فهي تتمتع بتباينات معرفيّة، لكنّها لا تتجاوز ما يشبه أن يكون نصوصًا ضمنيّة مقدّسة تقديسا يؤلّه تلك الحضارة، ويعبدها بقلمه، ويسندها بكلّ ما أوتي من قوّة، حتى باتت صناعة الخطاب الثقافيّ الحضاريّ في أمم الغرب سلاحاّ لا تتنازل عنه في كلّ مجال تدخله المعرفة، فهو يجري في بحوثها، ونتاجها الفكريّ، وإنتاجها الصناعيّ، ووسائل إعلامها، بل في كلّ إعلام تستطيع أن تمدّ يدها إليه.