متى يأتي شهر نيسان يا أمي.. انتظرت طويلاً.. نظرت لوالدتي وهي مازالت تحتضنني وتلعب بخصلات شعري المنسدل على كتفي.. طرحت سؤالي مرة أخرى على مسامعها ولم أدرك أنها تبحر في التفكير ولم تعد تشعر بمن حولها.. احتضنت يديها.. أمي.. أمي.. التفت إليها وقد ارتسمت على وجهها نظرة حزن لم آلفه في محيّاها الحنون.. ردت بصوت مليء بالشجن: ماذا يا ابنتي ؟؟ أمي متى يهل علينا نيسان.. حكيت لي كثيراً عن همساته اللطيفة.. نسيمه العليل.. عن رائحة زهر الليمون.. والفراشات الملونة التي تحلق حول المصابيح تضم العشاق وأحاديثهم.. وهم يتبادلون الهمسات وأجمل الحب.. متى يأتي.. متى ؟؟ سيأتي نيسان عندما تكونين أجمل عرائس القرية.. عندها سأتوج شعرك بزهر الليمون.. ستفوح رائحته العبقة في شعرك.. ستلاطفك نسماته العليلة وتهمس في أذنك: أنت أجمل عروس شهدتها القرية.. انتظرت كثيراً متى أتوج عروساً في شهر نيسان.. متى تزرع والدتي أشجار الليمون؟؟ ومتى أغرس زهرها في شعري.. وأنا ألعب في النهر المتدفق بجوار منزلنا.. لم أكن أعرف من حديث والدتي سوى ما يتعلق بالحلم الذي انتظره.. في يوم مّا شعرت بحركة غريبة في المنزل.. عرفت بعدها أن هناك من جاء لخطبتي.. رجل تخطى شباب العمر والقلب.. أراه كثير الشبه بوالدي رحمه الله ، رغم أن ملامح وجهه تفتقد للحنان الذي كان على محيّا والدي. لم أهتم بكل هذا قفزت عيني لتبحث في عينيه عن صورة لأشجار الليمون.. لم أر شيئاً!! لا تفوح منه رائحة الأزهار التي حلمت بعطرها وكنت أنتظر اليوم الذي أستنشق فيه عبيرها الحقيقي.. شعرت بانقباض وضيق. سارت الأمور بشكل سريع.. لم أدرك إلا وأنا معه يحيط بنا أربعة جدران مطلية بطلاء فاخر، وسرير واسع يتوسط الغرفة.. وأشياء كثيرة لم أرها من قبل.. ألقيت نظرة سريعة على محتويات الغرفة وأخيراً سقطت عيني عليه وهو يبتسم ابتسامة صفراء كثمر الليمون.. تحسست شعري.. أين طوق الزهر الذي وعدتني به والدتي في يوم زفافي.. لا أشعر بتلك النسمات الباردة.. ولا لهمساته في أذني.. سألته بحياء: هل نحن في نيسان ؟؟ أجابني: هل تحبينه؟.. نظر إلي ليجد إجابة سؤاله ترتسم على وجهي.. قال لي بهمس: سأجعله كل شهورك.. أغمضت عيني وأنا أشعر بأنفاسه الحارقة تلفح وجهي وغصة لم أعلم لها تفسيراً. استيقظت على شعاع يتسلل من النافذة ليسقط على وجهي ويغسل جسدي الذي بدأت أتحسسه وأشعر أنه لم يعد كما عهدته.. أسرعت للحديقة أبحث عن هواء نيسان.. همساته.. نسيمه العليل.. لم أجد شيئاً.. لم أجد أشجار الليمون ولم أر زهرها.. أخذ يهدأ من روعي ويطمئنني بأنه مازال على عهده وسيزرع أشجار الليمون طوال السنة ، وسيحيك لي أطواقاً من زهره ويضعه في شعري.. بينما كان كل ليلة يذكرني بوعده ويحدثني طويلاً ليقطف التفاح من جسدي وينام دون أن يلمس مشاعري. عندها أتكوم على أقرب مقعد بجوار النافذة أتأمل حديقتي التي فقدت حيويتها مثلي. في يوم ما.. والنساء حولي يلتحفن السواد.. وأنا أنظر إليهن متعجبةً وهن يلقين على مسامعي كلمات العزاء.. كنت أسأل نفسي هل تلبس النساء السواد في هذا الشهر؟؟.. مالذي يحدث حولي.. وقفت بينهن أنظر لوالدتي.. أسألها بصوت مرتفع: أمي.. هل جاء نيسان.. هل جاء؟؟ أنا لا أشم رائحة زهر الليمون، لا أشعر بنسمات بادرة تلفح وجهي.. لا أسمع همساته في أذني.. التفتت النساء إلي، نهضت والدتي مسرعة تحتضنني وتبكي.. أغرقتني بدموعها.. لم تبكين يا أمي.. لن يأتي ؟! لن تصافحني نسماته وتقبلني.. احتضنتني بقوة حتى شعرت أني ذبت فيها.. خارت قواي، بكيت معها.. بكيت بحرقة.. شعرت بنفس الغصة التي لم أجد لها تفسيراً في يوم زفافي.. فهمت كل شيء.. كل شيء.. تأملت وجه والدتي.. كل الوجوه حولي صفراء.. الجدران.. السقف والسماء، وحتى حديقة منزلنا.. التفت حينها لوالدتي سألتها بصوت واهن: متى يحين شهر نيسان ؟؟.