بمناسبة اليوبيل الفضي للمهرجان الوطني للتراث والثقافة: ربع قرن من الفعل التنويري والحضاري: ماذا قدَّم؟ وماذا نريد منه؟ وما دور وزارة الثقافة المنتظرة؟! بقلم الدكتور محمد بن عبدالله العوين ربع قرن من عمر نهضة هذا الوطن.. ربع قرن مرَّ.. ونحن لا ندري أن الزمن يمر بهذه الصورة الخاطفة السريعة.. ربع قرن يؤكد وبدون أدنى شك.. بُعد نظر القائد الملهم وعُمق رؤيته وتطلعه المبكر إلى أن يكون لنا «وجود» مؤثر على الخارطة العربية فكرياً وأدبياً. ربع قرن من الزمان كان ثمرة جهد فكري وعقلي نيّر ومضيء في مسيرة القائد الفذ عبدالله بن عبدالعزيز الحضارية الذي بدأ في تحقيق أحلامه الكبيرة لهذا الوطن قبل ستين عاماً تقريباً مع أول مهمة عملية تولاها.. فخرج بأفواج الحرس الوطني مطلع الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي من ثكنات ومجاميع عسكرية محدودة المستوى والتنظيم والتعليم.. إلى مؤسسة حضارية عصرية فارهة.. وعلى أعلى مستوى علمي وصحي وتثقيفي وتنظيمي. ولعل الصورة تكون جلية حين نتأمل في مسيرة القائد التنويرية المنفتحة المبكرة، فمن الحرس الوطني المؤسسة الحضارية الكبرى.. إلى المهرجان الوطني للتراث والثقافة بتطوراته المتلاحقة وعمق أهدافه الاتصالية والتنويرية البعيدة، إلى الحوار الوطني وإشاعة مبدأ التسامح وتعميق حس المواطنة والولاء للوطن الكبير وفق نظرية: أن الاختلاف لا يعني الخلاف، إلى الحملة الشجاعة على الفكر الإرهابي واجتثاث جذوره وتجفيف منابعه، إلى مشروع خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الذي حقق إلى الآن ابتعاث أكثر من ثمانين ألفاً من الشبان والشابات في مختلف التخصصات.. وإلى أكثر من عشرين بلداً متقدماً.. ويؤمل أن يحقق ضعف هذا الرقم في نهاية المرحلة الثانية التي تمتد خمس سنوات أخرى بدأت مع مطلع هذا العام الهجري، إلى جامعة: «الملك عبدالله للعلوم والتقنية».. الجامعة الرائدة المنفتحة على ثقافات العالم وإنجازاته العلمية، وجامعة الأميرة نورة التي ستكون في مقرها الجديد بالقرب من مطار الملك خالد أنموذجاً للازدهار والتطور العلمي وتأسيس الكوادر والطاقات النسائية السعودية عالية التأهيل، إلى التوسع في إنشاء الجامعات السعودية وتأسيس مقرات حضارية نموذجية للجديد منها، ودعم فكرة التوسع في الجامعات القديمة مثل: الملك سعود والإمام والملك عبدالعزيز لتكون بنى وقلاعاً علمية متواصلة التأثير والإضافة.. هذا ما هو بيّن على أرض الواقع مادياً.. أما معنوياً، فإن رؤية الملك القائد للأحداث وتطوراتها بعد مأساة 11 من سبتمبر دفعته إلى أن يُعجِّل من خطوات الانفتاح على العالم.. وأن يمتص ويخفف من الممانعة الاجتماعية.. ليستطيع مجتمعنا الاندغام في العولمة والتعاطي مع الثقافات العالمية وتخفيف آثار الصدمة من التطرف.. وما كونته من رؤى سلبية عن بلادنا، وقد حققت طموحات القائد وأفكاره النيّرة نجاحاً كبيراً في هذا السبيل، فمجتمعنا الآن أقل احتقاناً وأكثر انفتاحاً من مجتمعنا قبل عقد من الزمان، وما يُكتب ويُبث وما تُدار حوله النقاشات والحوارات لم نكن نحلم بطرقه.. أو الحديث عنه قبل خطوات التحديث والمواجهة الحضارية المدروسة بحكمة وبُعد نظر من لدن الملك عبدالله -حفظه الله-. ولو عدنا إلى الوراء عقوداً سبعة من الزمان لوجدنا كيف بدأنا مجتمعاً ودولة مسيرة التحديث بحذر.. تواصلاً مع خطوات قديمة بدأتها الدولة مع تأسيس أول معهد علمي بمكة المكرمة في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ثم دار التوحيد، ومع أول مطبوعة سعودية هي: «أم القرى» عام 1343ه.. إلى تأسيس أول كلية كانت نواة لجامعة المستقبل برعاية الأمير فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- إبان كان وزيراً للمعارف.. إلى البدء بأول خطوة في أصعب مهمة واجهتها الدولة لتحديث هذا المجتمع، وهي مهمة تعليم المرأة في عهد الملك سعود -رحمه الله- التي ووجهت بمقاومة غبية عنيفة في البدء، إلى إدخال أول وسيلة إعلامية في عهد الملك عبدالعزيز عام 1369ه.. ثم التلفزيون في عهد الملك فيصل عام 1385ه.. وما واجهه من معارضة حامية تلاشت مع الزمن، إلى مواجهة الردة الحضارية الثانية.. وهي فتنة الحرم عام 1400ه.. بعد الفتنة الأولى مع الإخوان من البادية في السبلة عام 1349ه.. ثم الفتنة الثالثة مع تيار التكفير والإرهاب عام 1423ه التي واجهها الملك عبدالله بكل الشجاعة والبسالة.. وما زلنا نعيش والعالم بقايا تداعياتها إلى الآن.. ووقفت الدولة بحزم وعزم وقوة في سبيل أن تسير هذه البلاد في خططها التطويرية المنفتحة باتزان على العالم.. وأن تؤسس مجتمعاً حضارياً متقدماً ومؤثراً ومتعاطياً مع المعرفة ونتاج الفكر الإنساني مع الحفاظ على الهوية الذاتية. ربع قرن يمر كالأحلام السريعة بما حمله من متغيرات انقلابية في المفاهيم.. ومن اكتشافات مذهلة في وسائط الاتصال والتقارب المعرفي وأحداث جِسام غيَّرت أيدولوجيات وأسقطت إمبراطوريات ودولاً.. وأزاحت أنظمة متحكمة.. وأعادت تقسيم العالم من جديد إلى كتلة واحدة مهيمنة.. بدل أن كان يُحكم وفق تجاذب كتلتين. ربع قرن يمر سريعاً بأثقاله ومتغيراته وانقلاباته وإضافاته وتحولاته.. ونحن نرقب ونتأثر ونؤثر إيجاباً بما نمنحه من حولنا من ثمار الفكر والأدب والعلم، والعالم الآخر من خيرات هذه الأرض الطيبة، وسلباً بما رسمه نفر ضئيل جاهل أحمق من أبنائنا عنا من صورة سلبية لا تُشكِّل شيئاً حقيقياً ولا تمنح صورة كلية عن مجتمعنا بكامل أطيافه، مع الاعتراف بأن أولئك النفر الضئيل الضال لم يخرج من فراغ ولم يأت من الهواء، بل كانت له بيئة وله منابت، لكنها بيئة محدودة ومنابت غير ممتدة ولا عميقة، أسرعت الدولة والمجتمع إلى اجتثاثها سريعاً وبذر بذور خيّرة معطية محبة متسامحة محلها.. ولعلنا نرى ثمارها قريبة -إن شاء الله. ربع قرن يمر وذاكراتنا الوطنية تعود إلى الوراء.. حين كنا نحلم بأن نَعرف وأن نُعرف..! نحلم بأن نعرف المؤثرين في خارطة الثقافة العربية، وأن يعرفنا أولئك المؤثرون كما نحن.. لا كما نُصور وهماً أو خطأ أو جهلاً أو تقصُّداً!. أتذكر بدايات التطلع إلى التواصل التي يسَّرها فكر القائد العظيم من خلال مناشط هذا المهرجان في بداياته الأولى.. حين كان فكرة باذخة في ذهنه قبل أن نجدها مكتملة زاهية على أرض الواقع بعد سنتين أو ثلاث من الخطوة الأولى التي بدأت عام 1405ه. كنا ثلة من الإذاعيين نكلف بنقل وقائع سباق الهجن الكبير أوائل عام 1401ه.. ولم يكن من متعة أخرى في هذا التكليف غير هذا المنشط.. إلى أن تبلورت في ذهن القائد المخطط والمفكر الإستراتيجي عبدالله بن عبدالعزيز الإفادة من هذا السباق السنوي ليكون التفاتة مخلصة وفية نحو التراث.. وكل ما يتصل به، فكانت البداية عام 1405ه فلكلوراً وأهازيج وأكلات وطرائق حياة الآباء والأجداد، ودُعي إلى حضور هذه المشاهد التراثية نخباً مختارة من المثقفين العرب وغير العرب، ثم ارتأى القائد عبدالله بن عبدالعزيز بوعيه الاستشرافي وحسه الفكري أن يتوسع هذا المهرجان في الدورات التالية، ليكون احتفالاً وطنياً ثقافياً وتراثياً شاملاً، فتوسعت الدعوات ووضعت برامج وندوات ومحاور شارك فيها مئات المفكرين العرب من كل الأطياف، وتم اختيار مواضع الجدل والسخونة الأيدولوجية والفكرية، وتمت أيضاً دعوة من يعتقد أن لديهم أفكاراً غير حقيقية عن المملكة، أو أنه قد وقر في أذهانهم تصورات وهمية عن بلادنا نتيجة حملات فكر اليسار المناوئ في المنطقة العربية - آنذاك - فكان لا بد من أن يأتوا إلينا ليروا وطننا.. وما أنجز بعيداً عن غوغائية الحملات الإعلامية، ويحاوروا المثقفين السعوديين.. ويقتنوا نتاجاتهم الأدبية والفكرية. كنا ثلة من الإذاعيين والصحفيين «نتعيش» في برامجنا على هذا الموسم الثقافي السنوي الغني، فالتقينا وجهاً لوجه بأدباء ومفكرين ومثقفين عرباً ما كنا نحلم أن يضمنا بهم مجلس.. أو يجمعنا بهم حوار لو لا أفضال هذا المهرجان. كانت أروقة الفنادق التي تستضيف المدعوين تعج بالمحاورات الإذاعية من محاورين أكفاء، مثل الأستاذ: إبراهيم الذهبي -رحمه الله-، والزميل المرحوم خالد البنيان، والأساتذة : عبد الملك عبد الرحيم وناصر الفركز وحسن التركي ومحمد العوض وغيرهم، بل بلغ الحرص على انتهاز فرصة المهرجان إلى أن تحجز الإذاعة غرفة خاصة تكون بمثابة أستديو مصغر للتسجيل، وكذلك فعل التلفزيون، وقد أسعدني الحظ من خلال هذا المهرجان بالالتقاء بنخب مميزة من المثقفين العرب في برامج إذاعية عديدة كنت أنتجها للإذاعة خلال السنوات السابقة منذ بدء المهرجان الوطني وإلى عام 1424ه السنة التي انتقل فيها عملي إلى التلفزيون مثل: ضيف الليلة.. وبين ذوقين.. وبعد الإفطار وغيرها، وقد نشطت جهات ثقافية أخرى لكسب استضافة أكبر عدد من الضيوف، فعمدت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة إلى حجز جناح خاص لاستضافة البارزين في برنامج «مراجعات ثقافية» الذي بث على شاشة القناة الأولى على مدى خمس سنوات من عام 1321ه إلى عام 1426ه، وأجريت فيه لقاءات معمقة مع أكثر من مائة وسبعين ضيفاً وعلماً بارزاً كان كثيرون منهم من ضيوف هذا المهرجان الثري. لم نكن ندري، أو ربما كنا في حالة أشبه ما تكون بالانبهار.. ونحن نلتقي بفعل كرم وسخاء هذا المحفل الكبير أعلاماً بارزة في الأدب والفكر، بل نجوماً كباراً من كل الأقطار العربية في مرحلة يمر بها المثقف السعودي كالغريب أو النكرة في كثير من أقطار الوطن العربي مطلع عام 1405ه.. فتبدأ عملية نفسية معقدة بين الطرفين للأخذ والعطاء أيضاً، عملية نفسية معقدة بالفعل، فكثيرون من مثقفي العرب يجهلون الأدب السعودي.. ولا يدرون إلا عن النزر القليل عن الكتاب السعودي، وما زالت - آنذاك - نظرة هيمنة ثقافة المركز على الأطراف سائدة مستبدة، ومن المشقة على النفس الأبية لدى أدبائنا الذين ظلمهم الظرف الزمني وتقلبات الأدوار السياسية في المنطقة التعريف بأنفسهم لإخوانهم العرب لأول مرة - في أغلب الحالات عند كثيرين منهم - ولكن أروقة الفنادق والصالات وقاعات المحاضرات والندوات وتبادل الكتب.. كل ذلك كان كفيلاً خلال سنوات يسيرة من عمر المهرجان الوطني باختصار الطريق الطويل وتكوين وشائج صلة وتواصل واقتراب فكري بين مثقفينا ومثقفي العالم العربي، كما تقلصت الفجوة، وأزيلت الرؤية الضبابية والفكرة الخاطئة الموهومة عن بلاد البدو والصحراء والقطيعة وهيمنة المحافظة. وكانت دعوة من يحمل هذه الأفكار مثار استغراب وتعجُّب من بعض المتابعين، فكيف تُدعى شخصيات كانت لها مواقف فكرية سلبية سابقة وحادة من بلادنا، مثل: يوسف إدريس وأنيس منصور ولطفي الخولي ومحمود أمين العالم والطيب تيزيني وغيرهم؟!.. الحق أن مواجهة الحقيقة أقوى من السماع بها، فمجيء هؤلاء وأمثالهم ورؤيتهم للمشهد الوطني السعودي بتفاصيله ودخولهم في حوار متصل مع النخب السعودية كان أقوى طريق للوصول إلى الحقيقة. كان الشغف يستبد بنا كإذاعيين للالتقاء بأكبر عدد من المفكرين والأدباء، إما في غرفهم أو قاعات بهو الفندق، ولك أن تلقي نظرة خاطفة في السنوات الطويلة التي خلت من عمر المهرجان.. فلا تجد زاوية أو طرفاً نائياً من البهو الرئيس في الفندق أو غرفة.. إلا ويتم فيها إجراء حديث أو تواصل أو تبادل كتب أو حلقة نقاش ساخنة قد تتصاعد وتسخن وتكبر دوائرها ويزداد المشاركون فيها إلى الهزيع الأخير من الليل!. لقد قرَّب المهرجان الوطني بذكاء وحكمة وحنكة بين المتباعدين، المثقفين العرب والثقافة السعودية!. ما عجز عن إدراك كثير منه الإعلام السعودي الرسمي وهو: التعريف بالثقافة السعودية وبالأدب والأدباء والتراث، نتيجة الضعف المزمن وسوء الإدارة وغياب التخطيط، وما لم تدركه الإدارة الثقافية في مرحلتها الأولى إبان رعاية الشباب، استطاع أن يحققه هذا المهرجان المتنامي المتصاعد في خططه وإضافاته سنة بعد أخرى على مدى ربع قرن بسلاسة ورقي حضاري وحسن تدبير ودقة تخطيط. لقد كانت الكتب السعودية تصل مباشرة إلى المثقف العربي، فاختصر حضوره غياب سنين طويلة من الفقد والتهميش، وكان اللقاء المباشر خير وسيلة لإلغاء سنين طويلة من الاتهام والاستنقاص وعدم التقدير. كانت الفنادق والقاعات والمحافل والندوات تضج بحضور أعلام بارزين اختصر المهرجان عليهم المسافات المتنائية.. وأزال الحجب الوهمية المصطنعة.. فكنت ترى هنا أو هناك في هذه القاعة أو تلك ومع هذا من أبناء البلاد أو ذاك الطيب صالح أو محمد الفيتوري أو عبد الوهاب البياتي أو أحمد الشيباني أو يوسف إدريس أو عبد الله الطيب أو محمد عمارة أو العروسي المطوي أو عبد الله أبو هيف أو هاشم صالح أو محمد أركون أو محمد جابر الأنصاري أو أنيس منصور أو خالد القشطيني أو محمد الهاشمي أو بلند الحيدري أو زكريا تامر أو محمد يوسف نجم أو محمد إبراهيم أبو سنة أو علي جواد الطاهر أو محمد صالح الشنطي أو فاروق شوشة أو فاروق جويدة أو محيي الدين اللاذقاني أو محمود السعدني أو جمال الغيطاني أو مصطفى محمود أو مطاع صفدي، وغيرهم. وفي المقابل يمكن لك أن ترى خلال السنوات التي عمر بها المهرجان فضاء المعرفة السعودية في مقابل أولئك المثقفين العرب نفراً ممتازاً مختاراً من المثقفين السعوديين يحاورون ويناقشون ويتواصلون ويجسرون الهوة، من مثل: عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري وحمد الجاسر وعبد الله بن خميس وعزيز ضياء وعبد الكريم الجهيمان وعبد الله بن إدريس وعبد العزيز الرفاعي وأبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري وحسن القرشي وحجاب الحازمي ومحمد بن سعد بن حسين وسعد البواردي وفهد العرابي الحارثي وعبد الله الغذامي وسعد البازعي وحسن الهويمل وحمد القاضي وعبد الله العثيمين وسعد الصويان ومعجب الزهراني وعبد المقصود خوجة وعبد الله شباط ومنصور الحازمي وعزت خطاب وعبد الفتاح أبو مدين ومحمد المريسي الحارثي وعبد الرحمن العبيد وسلطان القحطاني وخليل بن عبد الله الخليل وأحمد سالم باعطب وعبده خال وعبد الله الصيخان ومحمد جبر الحربي وخليل الفزيع وعبد الله المعطاني وعبد الرحمن المعمر وغيرهم. وإذا كان من آمال يمكن أن ننتظرها من راعي النهضة ومؤسس الدولة السعودية الحديثة الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. ونحن نحتفل باليوبيل الفضي على انطلاقة هذا المهرجان الحضاري، فإن المثقفين من أبناء هذه البلاد يتطلعون إلى تحقيق مطلب واحد ربما حان وقت الإلحاح عليه ويمكن إيجازه باختصار شديد في هذه الكلمات الموجهة إلى سيدي خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- : لقد عوّض المهرجان الوطني للتراث والثقافة النقص الحاد في عدم وجود جهاز ثقافي قوي ومنظم قادر على الفعل والتأثير، حيث كانت الاهتمامات موزعة على جهات عدة في الدولة، بين وزارة المعارف حينذاك ووزارة التعليم العالي ووزارة الإعلام والرئاسة العامة لرعاية الشباب، فملأ المهرجان الوطني هذا الفضاء الخالي من خلال جهاز الحرس الوطني.. والسؤال الذي تختلج به وجدانات المثقفين السعوديين: لقد قام الحرس الوطني مشكوراً بأعباء ثقافية كبيرة.. ومنها هذا المهرجان الوطني منذ أن كان فكرة وليدة إلى أن غدا موسماً احتفائياً وطنياً وعربياً مؤثراً، وكذلك تسهم جهات حكومية أخرى في بعض المناشط الثقافية والإبداعية كالأمانات ووزارة التعليم العالي وغيرها. ولكن .. إلى متى يمكن أن يظل الجهاز الثقافي الرسمي، وهو الآن ممثل في وكالة الوزارة للشؤون الثقافية والذي يُفترض أن يُناط به الفعل الإبداعي المؤثر كمثل هذا المهرجان وغيره ضعيفاً وغير مؤسس بصورة جيدة وغير كفؤ لإدارة الحركة الثقافية في جوانبها المتعددة: نشراً وتأليفاً وترجمة ومهرجانات ومسرحاً وغناء وفنوناً وتراثاً وتعريفاً وتواصلاً مع الثقافات الأخرى القريبة والبعيدة؟ إلى متى يظل التعريف بنا على مستوى محيطنا العربي.. أو المحيط الأوسع عالمياً فكرياً وأدبياً محدوداً وضئيلاً وقائماً على اجتهاد فردي غير مؤسسي قد يُخطئ ويصيب؟! إلى متى نترقب هذا المهرجان في موسمه الجميل من كل عام.. بينما نظل طوال السنة نقتات مناشط لا تشفي الغليل ولا تقرِّب بعيداً أو تغيِّر رؤية أو تبني فكرة جديدة مضيئة عنا؟! أما حان الوقت بعد - يا سيدي - ليرعى كل هذه الهموم جهاز واحد قوي ومدعوم ومخطط له بعناية وبوعي يقظ مدفوع بتحقيق غايات بعيدة تبرز مكنونات هذه الأرض الطيبة بتاريخها العبق وعطائها الفكري والأدبي الممتد مئات السنين ومواهب أبنائها وبناتها، لتتخلق عنا الصورة الحقيقية الإبداعية المتسامحة المنفتحة المحبة الجميلة البعيدة عن تكوينات وأوهام سنين التطرف وما جره من ويلات وأحكام ظالمة وغير حقيقية على مجتمعنا؟!. إن إنشاء وزارة للثقافة على أعلى مستوى وبأفضل الكوادر وأرقى الأمكنة وأجمل العقول كفيل بأن يحقق عنا الصورة الذهنية الجميلة الحقيقية التي نتوخاها ويتطلع إليها المخلصون والصادقون والمحبون. في زمن مثل هذا الزمن الاتصالي الصعب الذي تقوم فيه الأحكام على المجتمعات والشعوب من خلال الصورة والكتاب والكلمة والإبداع حان وقت وزارة قوية تحقق رسم الصورة المرتجاة. سيدي خادم الحرمين الشريفين: لقد بايعك مثقفو هذا الوطن العزيز على المحبة والإخلاص، وعلى الوقوف معك قلباً وقالباً روحاً وجسداً في تصديك لخفافيش الظلام وأعداء الحياة، وعلى السير معك في طريق التحديث والانفتاح والتحضر والاتصال والتواصل مع ثقافات هذا العصر دون استلاب أو تميع في الهوية الذاتية للقيم العربية والإسلامية الأصيلة. وإذا كانت الجيوش وقت الدفاع عن شرف الوطن تبذل الدماء، فإن العقول النيرة المشرقة والمواهب المبدعة الفذة لا تقل إسهاماً عن الجيوش في إدارة دفة المعركة، فهما معاً في جبهتين متوازيتين: القلم والرمح والسيف والريشة. فهل نرى قريباً «وزارة الثقافة» المنتظرة تحمل كل هذه الأعباء الجسيمة الثقال؟!.