كتبت هنا قبل نحو شهرين مقالاً تحت عنوان \"نشبة عبدالعزيز بن فهد\" ورويت فيه تجربة ديوان رئاسة مجلس الوزراء الذي يرأسه الأمير عبدالعزيز في متابعة المعاملات بين مختلف الوزارات والقطاعات في الدولة، ويوم الجمعة الماضي كتبت مقالاً بعنوان \"تجسيد القدوة أهم من الزهد\" وقلت فيه إن على الإعلام تقديم فاعلي الخير حتى وإن كان بعضهم لا يرغب أو لا يحب الأضواء، فذكرني أحد الأصدقاء بالمقالين، وقال ما دمت رويت \"نشبة\" الأمير في النظام وهو لا يرغب على اعتبار أنه منفذ لرغبة وتوجيهات ولاة الأمر، فلماذا لا تروي \"سطوته\" في فعل الخير، حتى وإن كان لا يرغب من باب مقولتك أن تجسيد القدوة أهم من الزهد في الأضواء، ولأن \"فعل الخير\" رغبة تنبع من ذات الإنسان لا من خارجه؟ وحين تأملت، ومع كثرة من أعرف من فاعلي الخير الذين ذكرتهم سابقاً والذين يستحقون الذكر والإشادة في المستقبل، وجدت أن الناس شهود الله في أرضه، ولو أخذت دلائل فعل الخير عند الأمير عبدالعزيز من أفواه الناس الذين وقف إلى جوارهم مرضى أو محتاجين أو مكروبين لما ترددت – لكثرتهم – في الاستشهاد بقول الشاعر القديم \"لولا التشهد كانت لاؤه نعم\"، فهذا يصدق على كثرة المواقف التي يرويها أصحابها ممن أوصلوا مطالبهم للأمير، أما مبادراته الشخصية فحين يرويها من أدهشتهم بأريحيتها وفجائيتها السعيدة تجدهم فوق الدعاء لفاعلها، يشكرون الله الذي وفق الأمير ليفرج عنهم من حيث لا يحتسبون، مرددين بصدق الممتن \"فرجت وكنت أظنها لا تفرج\". هذا ما يقوله الناس – ويرددونه، أما ما تقوله الأرقام والحقائق فهو أبلغ من ذلك وأعمق، فقد عالج الأمير الشاب حتى الآن نحو مئة وثلاثين ألف مريض على نفقته وبدعمه داخل المملكة وخارجها، وفوق ذلك أنفق على أكثر من ألف وستمئة حالة زراعة كبد وكلى، وأعتق أكثر من أربعمئة وخمسين رقبة عن طريق دفع الديات المترتبة عليهم بمئات الملايين، وهناك مئات الأسر المحتاجة التي بنى لبعضها مساكن وبعضها تعيش على نفقته، ناهيك عن المساجد التي بناها، والمشاريع الخيرية التي ينفق عليها داخل وخارج المملكة – وهي غير تلك المراكز الإسلامية في مدن وعواصم العالم التي كان الأمير رسول والده الراحل العظيم للإشراف عليها وافتتاحها – إضافة إلى عشرات الطلاب والطالبات الذين ابتعثهم الأمير لتحصيل العلم على نفقته. وفي الفترة الأخيرة بنى الأمير أفخم فندق على كورنيش جدة \"فندق روزوود\" على أحدث طراز معماري وجهزه بأفخم تجهيز بتكاليف تجاوزت مئتي مليون ريال وهو مشروع يسيل له لعاب الاستثمار المغري، ومع ذلك أوقفه الأمير للعمل الخيري، ولم يظهر من كل هذه الأفعال والأعمال الخيرية التي تقوم عليها لجان وتسير وفق نظام محكم تحت الضوء إلا اليسير النادر مع أن أياً منها يستحق الإشادة والتقدير، ولعل زهد الأمير في إشهار أفعاله الخيرية عائد إلى نشأته ومسيرته الأولى في رحاب مدرسة والده الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، الذي عرف بحنكته السياسية المشهورة، وبأعماله الخيرية المخفية التي شملت القاصي والداني، وما زال معظمها طي الكتمان، سواء من ماله أو جاهه، وأتذكر أنني كتبت مقالاً عند وفاته اقترحت فيه جمع جوانب كثيرة من تاريخه من أفواه الناس الذين عاصروه وشهدوا فضائله وما أكثرهم، وما زلت أرجو أن يتم ذلك، ومع تقديري لزهد الأمير في وضع أفعاله الخيرية تحت الأضواء، سواء اقتداء بوالده العظيم – والشبل من ذاك الأسد – أو لرغبة خاصة هدفها الأجر من رب العزة والجلال، فإنني ما زلت عند رأيي أن تجسيد القدوة أهم من الزهد، سيما وأن \"الأحاديث والذكر\" التي أشار إليها حاتم الطائي في بيته الشهير \"أماوي إن المال غاد ورائح، ويبقى في الناس الأحاديث والذكر\" لا تعني \"حاتم\" شخصياً وإنما تعني مبدأ وقيمة الكرم ورمزيتها في حياة الناس، وهي قيمة عظّمها الإسلام وحث عليها، وما زلنا حتى يومنا هذا نتخذها منقبة فنقول في وصف الكريم \"أكرم من حاتم\"، فإذا كان الشيء من معدنه فلا يستغرب مثل فعل الأمير، وإن الوصف والتفضيل والقدوة تصبح أبلغ وأعمق وأدعى للاقتداء.