لقد أتيح لي في أحد أعياد الفطر المبارك أن أتشرف بزيارة قدوة من قدوات بلادنا، وعلمُ من أعلامها في منزله، بل فذٌ من أفذاذها، فهالني ما رأيته من توسع في النعم بشكل باذخ جداً ومثير للتساؤل؟! ألم يكن هذا هو من يتحدث لخواص الناس لديه، أو حتى لعامتهم عن الورع والزهد وخطورة التوسع في المآكل والمشارب على الإنسان المسلم، فما بالي أرى عجباً عجاباً، وكأني ولجت إلى قصر أمير، أو ديوان حاكم! كل ما كان حولي يشي بالترف والانفتاح على هذه الدنيا المخادعة ببريقها! بينما كان الرعيل ينظرون إلى الدنيا على أنها مجرد ومضة! ولقد كان السلف الصالح يعتنون أشد العناية بتتبع أحوال العلماء للاقتداء بهم والتخلق بأخلاقهم. القدوة الحية التي يراها الناس لها أثر كبير في بناء النفوس وتهذيب الأخلاق، وقد كان أصحاب عبدالله بن عمر «رضي الله عنهما» يرحلون إليه فينظرون إلى سمته وهديه ودلّه فيتشبهون به، وكانت رؤية بعض أئمة السلف تذكر بالله تعالى، وقال أبو عوانة «رأيت محمد بن سيرين في السوق فما رآه أحد إلا ذكر الله»، ويقول الشيخ أحمد الصويان في بحثه أنه من اللطائف التربوية الجميلة أن الإمام ابن أنس قال «كانت أمي تعممني وتقول اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه». إذا كان صلاح العلماء والدعاة وديانتهم سبباً لمحبتهم وقبول رأيهم والتفاف الناس حولهم، فإن خطأ العالم أو الداعية وفساد أمره سبب لفتنة الناس وانصرافهم عنه، ويزداد الأمر خطراً إذا كثر طلاب الدنيا في أوساط العلماء والدعاة، وظهر صيتهم بذلك، ورأى الناس من انكبابهم على الدنيا وتطلعهم للشهرة والسمعة وبحثهم عن المغنم! ما لا يليق بأمثالهم! وقد صح عن رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» أنه قال «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه»، أخرجه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي. وللحافظ ابن رجب الحنبلي شرح ماتع لهذا الحديث في رسالة مستقلة فإذا كان التشوف للدنيا سبباً في فتنة العالم وفساده فإن هذه الفتنة سيظهر أثرها أيضاً على الناس لأنهم يرون قدواتهم قد طارت بهم الدنيا بزخارفها وألهتهم عن كثير من الكمالات والمحامد، ولهذا كانت وصية العلماء الربانيين أن القدوات ينبغي أن يربؤوا بأنفسهم عن خوارم المروءات ومواطن الشبهات، وأن يترفعوا عن بعض المباحات، فضلاً عن غيرها من المكروهات حتى لا يفسر فعلهم أو قولهم على غير وجهه، ولهذا قال الإمام الأوزاعي: «كنا نمزح ونضحك فلما سرنا يقتدى بنا خشيت ألا يسعنا التبسم»، وقد عدّ بدر الدين بن جمّاعة ذلك قاعدة عامة في أخلاق من يقتدى بهم فقال: «ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها، فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في الأحكام وهم حجة الله على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون ويقتدي بهم من لا يعلمون»، وقد رأينا في واقعنا الاجتماعي كيف أن العامة يلوكون أحياناً أعراض العلماء والدعاة بسبب توسعهم الزائد في الدنيا وتعلقهم بزخارفها، أو بسبب وقوعهم في بعض الممارسات المفضولة، وتصبح تلك المواقف فتنة تصرف الناس عن العلماء والدعاة وربما تسقط هيبتهم وقدرهم وتؤدي إلى تنقصهم وازدائهم، وقد تكون باباً يتندر به بعض أهل الأهواء ممن يتصيدون العثرات ويفرحون بالزلات. إن الناس في حاجة ماسة إلى القدوات الصالحة التي يلمسون نزاهتها وترفعها عن كل ما يشين ويرون تأثيرها في الواقع بعملها أكثر من قولها، وقال ابن الجوزي، «الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول»، وسمو الرسالة التي يحملها الداعية ليست كافية وحدها للتأثير في المدعوين، بل لا بد أن يقترن بذلك إيمان الداعية بها وصدق امتثاله وانتمائه لها، ولهذا كان أول ربا وضعه النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» كان ربا العباس بن عبدالمطلب، رضي الله عنه، وأول دم وضعه دم ابن عمه. معاذ الحاج - جازان [email protected]