\"غريبة الدنيا. كم فيها من أناس كانوا سبباً في سعادتنا وهم لا يعرفون عنا شيئاً، وكم من أستاذ تعلمنا منهم ونحن لم نقف في بابهم، ولا جلسنا في مدارسهم. وكم من رجال نحن مدينون لهم من دون أن نأخذ منهم فلساً أو نتناول على مائدتهم رغيفاً\"، هكذا كتب الأستاذ الكبير سمير عطاالله في أحد مقالاته، وهو واحد من قلة قليلة جداً من الكتاب العرب، الذين حين يفوتني – ونادراً ما يحدث – قراءة ما يكتبون يوماً واحداً، أشعر أن شيئاً – ما – ينقصني، أن فكرة تائهة في ذهني لم تنضج. أن جملة مفيدة في خاطري لم تكتمل. أن تعليقاً مناسباً أحس به لكنني لم أستطع قوله. أن مشهداً جميلاً في الأفق لم أتمكن من رؤيته. أن لحظة حياة مكتنزة بالوعي سقطت من حساب زمني. سمير عطاالله، في مقاله اليومي بصحيفة الشرق الأوسط لا يعطيك خلاصة تجربة خمسين عاماً في الكتابة الصحفية بكل فنونها فحسب، بل يمنحك خلاصة جيل وعى ورصد وتأمل، فيضع بين يديك عقله وقلبه بلا رتوش. إنه أسير عقله فقط، عاصر صعود الشعارات العربية والشعاراتيين العرب وكان واحداً من أعدل الشهود على مشاهد التأبين، فحين كتب واصفاً كان منصفاً للشعار والشعاراتي وللمؤبن وتأبينه، وراقب حركة لبنان منذ أن كان محور الحراك العربي ومحطته ومحفظته، إلى أن أصبح ميدان العراك العربي وشماعته ومفلسته، فكتب كل ذلك بعقل يزن السياسة ويحترم الكياسة، ويسخر من اللياسة. طاف دنيا العالم المتقدم فلم يبهره إلا أن عواصم العرب متخلفة، وجاب دنيا العالم المتخلف فلم يؤلمه إلا أن عواصم العرب تستقبله. كانت المعرفة وما زالت رادعه الوحيد عن التعالم وكانت وما زالت زنزانة عذابة المقيم، وكانت وما زالت نافذته التي يطل منها على قارئه يومياً ليطمئنه أن في العمر والأمل والعرب بقية، على الرغم من كل أنف وشيء. يوم الخميس الماضي ذكرنا الكبير سمير بمرور عام على غياب الكبير خلقاً وأدباً وفكراً أستاذنا عبدالله الجفري، فكان العقل الناقد والقلب المحب حاضرين، وإنتاج الجفري الضخم جدير بالقراءة والنقد، وشخصيته الإنسانية الفذة جديرة بالحب والتقدير، وقد عاصرته وقرأته وأحببته، وقد كان يردد على مسامعنا كثيراً مقولة أستاذه محمد حسين زيدان – رحمهما الله – التي قال فيها إن مجتمعنا مجتمع دفّان، أي ينسى رموزه بسرعة، وفي ذلك كثير من الصدق والحقيقة، وحين وجدت أن الأستاذ سمير عطاالله تذكر فكان أوفى من كثيرين من أقران وتلاميذ الجفري، وجدتها مناسبة لأحيي الأستاذ سمير وأقوله له إنك من الرموز العربية التي نتعلم منها كل يوم، ولأشكره على مقالته الضافية عن الجفري الرمز الذي تعلمت منه أجيال عربية، تحية للأستاذين الكبيرين. الرموز لا تموت.